بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة :
تحتفل مجلة العربي الصادرة من دولة الكويت في شهر ديسمبر من عام 2007 م ، بمناسبة مرور خمسين سنة على صدورها ، وخلال هذه الفترة قامت المجلة باستطلاعات صحفية مصورة تحت شعار" إعرف وطنك أيها العربي " والذي أطلقه أول رئيس لتحرير للمجلة الدكتور أحمد زكي كما أن سليم زبال كان أول من قام بهذه الاستطلاعات ، وهي بهذا العمل تعتبر وثيقة حية ترصد حال المدن العربية من الخليج للمحيط خلال هذه الفترة
ورغبة منا في الرحلات في الإستفاده من هذا الزخم المعرفي فسوف ننشر بتصرف بعض من هذه الاستطلاعات بين فترة وأخرى تحت مسمى من استطلاعات العربي
أبها.. مدينة فوق السحاب
كتبه أنور الياسين
عدسه طالب الحسيني
نشر بالعدد رقم 472
الصادر في 3/11/1418هجرية
الموافق 1مارس 1998م
تغادرك جدة بحرها وطقسها الخانق, ومبانيها البيضاء الشبيهة بنماذج على لوحة مهندس
وشوارعها الممتدة حتى الصحراء المحيطة, الكامنة في قلب العربي مثل الذكريات القديمة..
لاشيء يفنى.. ولا شيء يضيع.. والقلب آخر الأمر مكان يتنفس فيه الحنين.
تنقلك الطائرة من مطار الملك عبد العزيز الحديث بتقنياته الإسلامية وشجيراته الخضراء الطالعة من أرضه تحت الثريا,
تحفة معمارية وجمالية إلى أبها المدينة ، هدف الرحلة واللقاء.
وأنت فوق السحب تتذكر قوافل الجمال بحدوها في الفلاة, تقتحم روحك مثل حلم قديم لم يغادر الذاكرة أبدا,
والجمال تسرع الخطى عبر الجبال ومحيطات الرمال ـ من جدة لأبها في الزمن القديم رحلة التسعة أيام ـ
زمن ينقضي وزمن يجيء, وتلوح أبها الخضراء من الجو. إنها حكمة السنين وسُنة التطور.
تذكرت قول الشاعر:
إن كنت تهفو للجمال ************ هيا إلى مهد الجمال
أبها تدل بحسنها ************ يا حبذا منها الدلال
والطقس فيها ساحر ************ لكنه السحر الحلال
يقولون إن لأبها في القلب السعودي منزلة اللؤلؤة داخل صدفتها, فهي المصيف لموقعها الجغرافي
وجوها الساحر , وتربتها الخصبة , وأهلها الكرام , وهوائها الطيب الذي يهب من جبال تخترق السحاب.
هبطنا مطار أبها الحديث, كان المطر الخفيف.. يهطل في بداية أكتوبر. معمار مختلف يستمد طابعه من جغرافية المكان.
افتتح في 1398 هجرية الموافق 1978م في منطقة "حجلا" وأصبح معدا لاستقبال مختلف الطائرات بما في ذلك (الجامبو)
وعندما تغادره تطل على الفضاء الفسيح, المفتوح على الجبل.
عبر الطريق تشاهد البساتين وحقول النخيل وحدائق العنب. يسير معك جبل (ذرة) المرتفع الذي يقع في الجزء الجنوبي من المملكة
وجبل (شمسان) حيث يقع إلى الشمال الشرقي بين المدينة وجبال (الدقل) شمال المدينة.
ترتقي درج الجبل فتصل حتى السحابة حيث يمر من بين أصابعك مثل نتف القطن ، وتطل على المدينة الهاجعة
بين السهل والجبل فكأنك تطل على مدينة أسطورية تخرج لك من صفحات كتاب قديم.
تساءلتُ: من أين جئت أيتها المدينة ؟ من أي التواريخ خرجت؟
ولما عرفت الإجابة أدركت أنها من مدن الزمن القديم , واكبت الأحداث وشهدت الأيام تغيرها وتطورها
وكم وطأت أرضها حوافز الجياد , وكم شاهدت من فاتحين!!.
هل نبدأ بالاسم؟ ... دعونا نبدأ بالاسم.
يقول المؤرخ حسن الهمداني : "عندما نتحدث عن تاريخ أبها الحديث فإنما نعني تاريخ عسير والعكس صحيح".
أعلم أن أبها موجودة من قبل الميلاد بستمائة سنة وكانت تسمى "هيفاء" أو "إيفا" وكانت مدينة في مملكة سبأ.
لكن يظل السؤال قائما: لماذا سميت أبها بهذا الاسم?
الحقيقة أنني خلال بحثي في الكتب التي قرأتها عن سبب تلك التسمية لم أعثر على إجابة شافية
وإن وجدت الكثير من الافتراضات والتفسيرات المختلفة.
فلم أجد في كتاب "فرجة الهموم والحزن في حوادث وتاريخ اليمن" ولم أجد في كتاب "تاريخ عسير" لهاشم النعمي
ولم أجد في كتاب "الإكليل" لحسن الهمداني ما يشير إلى معنى الاسم من حيث الدلالة والمعنى
وإن كنت أرى أن الاسم مشتق من البهاء وجمال المنظر بسبب تاريخية واستمرار الجمال في هذه البقعة من الأرض.
يقول علامة الجزيرة والمحقق الكبير شيخنا حمد الجاسر: " لا نجد في معجم البلدان لياقوت ولا في معجم ما استعجم للبكري
ذكرا لهذه المدينة وهذا ما دفع كثير من الباحثين إلى الحكم بأن مدينة أبها حديثة
ثم يواصل الشيخ حديثه : أبها مدينة قديمة جدا لا يعرف اسمها الحقيقي الذي نشأت عليه.
تطورت في العمارة وربما تغير مسماها من فترة إلى أخرى حتى استقرت على ضفتي الوادي "بهذا الاسم ".
إذن أبها عبر الزمن دلالة على اسمها , وخلال التاريخ قائمة , شاهدة على ممالك بادت ودول انقضت يواكب مسيرتها
ذلك التطور الهائل الذي شاهدته هذه المدينة في حقبها الأخيرة على مستوى التعليم والعمران والصحة والثقافة
وشق الطرق وإقامة المنتجعات السياحية منذ قيض لإدارتها أمير مثقف شاعر هو الأمير "خالد الفيصل".
يقولون إنه ورد في التوراة أن بلقيس ملكة سبأ عندما استدعيت لمقابلة الملك سليمان طلبت من سكان " هيفاء " أن يؤمنوا لها جمال الرحلة.
وذكر أن العمالقة قد عمروها , وأنه قد عاش بها "بنو ثابر" حتى جاءتهم "الأزد". وكان أهلها في الجاهلية "أصحاب قوة بين القبائل".
وفي عهد " أبي بكر رضي الله عنه " أمدته بالمقاتلين الأشداء ليرد أصحاب الردة.
وكانت أحد توابع الدولتين الأموية والعباسية. وأنها خضعت لحكم الأخشيديين والطولونيين والأيوبيين والمماليك.
وعندما فتح العثمانيون بلاد الشام ومصر أرسل الشريف حسين ولده "أباغي" إلى السلطان العثماني
وتم تسليم مفاتيح الكعبة له ومن تلك الفترة تبعت منطقة عسير إلى الدولة العثمانية.
وفي عام 1232 هـ تمكن المصريون بقيادة محمد علي وابنه إبراهيم باشا من دخول أبها واحتلالها
وتم القبض على "طامي بن شعيب" القائد العسيري حيث بُعث به إلى استانبول ليعدم
حتى تحررت أخيرا على يد آل سعود ودخلت في وحدة المملكة العربية السعودية حتى اليوم.
وأبها تقع شرق جبل عسير في سلسلة جبال السروات بين عدد من الجبال المتفاوتة يخترقها وادي أبها امتدادا لوادي "خبيبي"
وفي منتصفها ربوة "رأس أملح" , ومن هذه الجبال جبل السودة والذي يرتفع إلى حوالي 3130متر فوق سطح البحر
ويبدو هذا الجبل على شكل هضبة مسطحة تعلوها قرية السودة وتنحدر هذه الهضبة بشدة في اتجاه تهامة , وتدريجيا نحو الشرق.
نظرة على الماضي
أنت لا تفهم المدن إلا إذا تجولت عبر شوارعها , وشممت رائحة المدينة الخفية وأحببت منها المكان.
يقول "جاستون باشلار" في "جماليات المكان": "الإنسان يبحث في تحديد القيمة الإنسانية لأنواع المكان الذي يمكننا الإمساك به
والذي يمكن الدفاع عنه ضد القوى المعادية, أي المكان الذي نحب".
تنشقت رائحة المدينة فخرجت من الأزقة والفرجان والدروب الضيقة رائحة زمن محبوس , زمن لا متناهٍ.
من الأسواق القديمة خرجت رائحة البخور والهيل والصندل والعطور الهندية وتوابل الشرق القديم.
ثمة ألفة نستعير من خلالها الأزمنة , وثمة رائحة تحيي ما انقضى وفات.
في اللحظة التي اخترقنا فيها أنا ومرافقي المصور حي "مناظر" وهو أصل المدينة
يزدحم بالمباني القديمة وبالمحلات الصغيرة التي تذكرك بأسواق بغداد ودمشق والقاهرة في التاريخ الوسيط.
دكاكين تستقر تحت أسقف تسمى "سددا" وتترك هذا الحي لتشاهد أحياء "المفتاحة" و"القرى" و"الربوع".
همس في أذني المواطن والكهل العجوز "خالد علي الفهد"
قديما كان الفقر والجوع حقيقتين مؤكدتين في حياتنا. كان السيل يهبط علينا من الجبال من بحر جرف جسره
فنغرق في الطين والماء ونعيش أياما بائسة نقاوم الجوع والماء. كانت أيام شدة. الآن انظر حواليك لقد تغير كل شيء.
يغادرني العجوز متوكئا على عصاه , ثم ينظر تجاهي وقد أشار ناحية الجبال الخضراء , والقرى السياحية , منشدا:
قد أودع الله فيها كل طيبة ************ سبحانه وتعالى جل معطيها
وآمنت بالله واستثنيت جنته ************ لا شيء يسبق أبها أو يضاهيها
لقد كان يعقد قديما في أبها سوق "الثلاثاء" كان يعرف باسم "ابن مدحان" يمثل لأهل أبها قيمة اجتماعية وثقافية وسياسية.
تحل فيه الخصومات وتتوثق المعارف , ويؤدب العصاة الخارجين على التقاليد وشرع الله , وتعقد صفقات البيع والشراء
ومازال نسيج هذا السوق يظهر في نمط حياة أهل أبها وتراثهم ودمهم حيث اختلطت قبائل مثل "بني مغيث" و"اعلكم"
و(ربيعة ورفيدة) و(بنو مالك) سكان أبها الحقيقيون , تحول السوق الآن إلى سوق يباع فيه العسل الجبلي الطيب والسمن
وبعض التحف الأثرية والأواني المنزلية القديمة , بالإضافة إلى التوابل.
خميس مشيط
وكما أن أبها هي العاصمة التاريخية لإمارة عسير فإن مدينة خميس مشيط التي تقع في قلب منطقة عسير
في بداية السهول الشرقية لجبال السروات عند ملتقى وادي عتود بوادي بيشة المشهور
وهي على ارتفاع 1850متراً تقريبا عن سطح البحر. فإنها تعد أكبر مدن المنطقة الجنوبية من حيث المساحة وعدد السكان
ونقطة اتصال بين المنطقة ومدنها وقراها وبين بقية مناطق المملكة , فيبلغ عدد سكانها 250.000 نسمة
وعدد سكان القرى التابعة لها 100.000 نسمة تقريباً ومساحة المدينة الإجمالية 800 كم مربع تقريباً.
كما أن مدينة خميس مشيط تعتبر المركز التجاري الصناعي الأول في المنطقة الجنوبية , لموقعها الاستراتيجي
حيث تقع في قلب المنطقة الجنوبية وعلى مفترق الطرق المتجهة من وإلى المنطقة..
هذا بالاضافة إلى كونها مدينة سياحية بها الكثير من عناصر الجذب السياحي.
الطريق من أبها إلى "الخميس" كما يحلو لأهل عسير نطقها طريق سريع لا يمكن أن تفرق فيه بين مدينة أبها وخميس مشيط
ولكن الطريق الذي يمتد إلى أكثر من 70 كيلو مترا وعلى جوانبه المجتمعات الصناعية
يجعلك تلاحظ مدى التطور الذي أصاب هذه البقعة البعيدة في وسط الجبال.
تجولنا في السوق الذي تتنوع في الأشياء التراثية..
وصلنا بعد العصر إلى منطقة السوق الشعبي أو ما يسمى بسوق الصناعات اليدوية المحلية , حيث تباع الأسلحة القديمة
يقول مرافقنا عبدالرحمن : السلاح من مميزات الرجل في الماضي وحمله في كل الأوقات أمر ضروري للدفاع عن النفس
لأن البيئة الطبيعية جبلية ومن البديهي وجود الحيوانات المفترسة والدواب والثعابين السامة والحشرات القاتلة
ولم يكن الرجل يسير دون "جنبيه" مهما كان ميسورا أو فقير الحال وحتى الطفل بعد سن العاشرة
كان يدرب على استخدامها وحملها ، وعندما وصلت البنادق أخذت الأهمية نفسها لأنها تخدم الهدف نفسه.
بعد ذلك ذهبنا إلى قرية الحمسان للتراث , وهي عبارة عن متحف يضم تاريخ ونشأة المنطقة الجنوبية من المملكة العربية السعودية
أنشأه قبل عام (1417هجرية الموافق 1997م ) بمجهود فردي السيد ظافر بن خمسان الذي يقول : " إن هذا العمل
هو متعته الخاصة حيث أشرف بنفسه على جمع الكثير من التحف والأدوات التي كانت تستعمل في الطبخ
وكذلك أقمنا مسرحا ومطعما في هذه القرية تقدم أصناف الطعام والتراث الموسيقي والفن القديم..
وكما تلاحظ أنها كلها مبادرات فردية حيث قمنا بجمع هذه الحصيلة القيمة من مختلف المناطق الجنوبية
لكي نحافظ على تراثنا وليكون شاهدا لكل من يأتي لزيارة منطقتنا الجميلة ".
للمزيد ومتابعة وقراءة بقية موضوع
أبها.. مدينة فوق السحاب
http://www.alarabimag.net/arabi/Data.../Art_23672.XML