مقدمة الكتاب
في مايو 1938م (السنة الثالثة عشرة من التقويم الياباني شوا) زار الشيخ حافظ وهبة (سفير المملكة العربية السعودية في بريطانيا) اليابان لحضور حفل افتتاح مسجد طوكيو الذي بني في منطقة (يويوغي). وحث الشيخ حافظ وهبة وزارة الخارجية اليابانية على إرسال وفد ياباني إلى المملكة العربية السعودية، لدعم الروابط بين البلدين، فلبت وزارة الخارجية اليابانية الدعوة، وأرسلت وفدا يتكون من السيد "ماسويوكي يوكوياما" الوزير المفوض في سفارة اليابان في مصر، والسيد تومويوشي ميتسوتشي، وكان مهندسا بوزارة شؤون الصناعة والتجارة الدولية، وكاتب هذه السطور إيجيرو ناكانو، وكنت أعمل آنذاك في السفارة اليابانية في القاهرة.
وصلنا إلى مدينة جدة في الرابع من صفر عام 1358هـ (السادس والعشرين من مارس سنة 1939م)، وفي الواحد والثلاثين من مارس بلغنا مدينة الرياض، حيث قطعنا الطريق وسط الجزيرة العربية بالسيارة، وبقينا في الرياض عشرة أيام، ويتحدث هذا الكتاب عن مشاهداتنا في الأيام العشرة التي أمضيناها في الرياض، والأيام التي قضيناها في رحلتنا في قلب الجزيرة العربية.
في تلك الأيام لم يكن هناك سوى القليل جدا من الأوربيين الذين زاروا مدينة الرياض، ومعظمهم من المغامرين البريطانيين، أو العسكريين. أو من الدبلوماسيين، وكانت هذه أول مرة يزور فيها ياباني هذه المنطقة، وقد عوملنا معاملة المسؤولين المهمين والضيوف الرسميين، وتمتعنا بكرم الضيافة العربي، فوضعت الحكومة السعودية تحت تصرفنا خمس سيارات، وثلاثين مرافقا، ظلوا معنا طوال رحلتنا، فلم تواجهنا صعوبة تذكر، على الرغم من أنها تعد الزيارة الأولى لتلك البلاد، فقمنا برحلتنا في أمن وأمان، وكانت تجربة رائعة لنا جميعا.
في تلك الأيام كانت أوربا تتحول إلى ميدان معركة كبير، وكانت بلدان جنوبي غرب آسيا على وشك المعاناة أيضا، ومن هنا وجب علينا أن نأخذ الحيطة والحذر، فالمنطقة مثلها مثل بقية بلدان آسيا، وكان علينا أن نفهم هذه المنطقة جيدا، وأن ندرك- بصفة خاصة- الروح الإسلامية التي يتمتع بها أهلها.
وأتمنى أن يسهم هذا الكتاب في دعم روابط الصداقة بين بلدان جنوب غربي آسيا واليابان.
وأخيرا أشكر الحكومة السعودية، وجميع من رافقونا في رحلتنا على مديد المساعدة الكريمة لنا خلال رحلتنا، وأدعو الله أن يرعى جلالة الملك عبد العزيز وولي عهده ويحفظهما.
يوليو 1941م
إيجيرو ناكانو
طوكيو- اليابان
مقدمة المترجمة
أضع بين يدي القارئ العربي- أول مرة- هذه الترجمة العربية لكتاب "كايسونوارابيا كيكو "يوميات رحلة في الجزيرة العربية " لمؤلفه إيجيرو ناكانو ( Eigiro Nakano ) الذي كتبه باللغة اليابانية بعد عودته من المملكة العربية السعودية عام 1358هـ/1939م، ونشر أولا في حلقات بدءا من رمضان 1358هـ/ نوفمبر 1939م، وحتى محرم 1360هـ/ فبراير 1941م في مجلة كايكوسيكاي (Kaikyo Sekai) أي (مجلة العالم الإسلامي)، ثم صدر في كتاب في شعبان 1360هـ/ 22 سبتمبر 1941م في طوكيو باليابان.
وكانت حكومة المملكة العربية السعودية قد قدمت دعوة إلى المسؤولين في الحكومة اليابانية لزيارة الرياض، ونقل الدعوة الشيخ حافظ وهبة سفير جلالة الملك عبد العزيز- يرحمه الله – في بريطانيا، تقديرا لما قدمته الحكومة اليابانية من مساعدة في إنشاء مسجد طوكيو عام 1357هـ/ 1938م.
وتلبية لهذه الدعوة أرسلت الحكومة اليابانية إلى الرياض الوزير الياباني المفوض في سفارة اليابان بالقاهرة، على رأس وفد ضم مؤلف الكتاب "إيجيرو ناكانو "، وتعد هذه أول زيارة رسمية يقوم بها مسؤولون في الخارجية اليابانية إلى المملكة العربية السعودية.
ونظرا لأهمية هذه الرحلة، ولما يتمتع به كاتبها من ثقافة إسلامية عربية، جعلت من رحلته هذه وثيقة تاريخية مهمة، رأيت من المفيد ترجمتها إلى اللغة العربية، توثيقا للعلاقات السعودية اليابانية من جهة، ودفعا للباحثين إلى المزيد من تقصي الحقائق عن تاريخ العلاقات العربية اليابانية من جهة أخرى.
تخرج الكاتب في جامعة أوساكا للغات الأجنبية، قسم اللغة الألمانية، والتحق بالعمل في وزارة الخارجية سنة 1352 هـ/ 1933 م، ثم سافر إلى القاهرة، وأقام فيها سبع سنوات، درس- وفق ما قال- في الأزهر وفي جامعة فؤاد الأول(جامعة القاهرة) ويقال: إنه عمل أستاذاً بجامعة أوساكا للغات الأجنبية
وفي أثناء ترجمتي للكتاب لاحظت أن علاقة الكاتب بالإسلام وثيقة، وهي أعمق من أن تكون علاقة ثقافية فقط، وإن لم يعلن عن هذا في كتابه صراحة، وصوف يؤيد القارئ وجهة نظري، حين يطالع ما كتبه عن مشاعره عند سماع الأذان، ورغبته القوية في القيام بأداء الصلاة، فهو يقول " ورحت أصلي من داخل فؤادي" وأيضاً حين تحدث عن الآيات القرآنية التي وردت على خاطره.. وتفسيره الدقيق لمعناها..فكل هذا لا يصدر ألا عن رجل معجب بالإسلام، وهذه نقطة مهمة تحتاج إلى بحث واستقصاء.
وفيما يتعلق بالترجمة التزمت الدقة في النقل، مع الحفاظ على روح النص الأصلي، وطريقة البيان في اللغة اليابانية، وإذا كانت إقامتي في الرياض تسع سنوات قد ساعدتني على فهم ما ذكره المؤلف في رحلته، فإن لغته اليابانية القديمة التي مضى عليها أكثر من نصف قرن، أتعبتني كثيراً، وجعلتني ألجأ إلى المعاجم المختلفة، ولا سيما القديمة والمتخصصة.
هذا بالإضافة إلى الاستفادة من بعض المصادر الإنجليزية والعربية التي ورد ذكر بعض منها في الحواشي الواردة في الترجمة العربية.
وفي الختام أشكر الله عز وجل الذي وفقني إلى ترجمة هذا الكتاب القيم، كما أشكر سعادة الدكتور/ فهد بن عبد الله السماري، أمين عام دارة الملك عبد العزيز، الذي شجع على ترجمة الكتاب، ووفر لي بعض المصادر المهمة التي ساعدتني أثناء الترجمة، وقام بمراجعته ومتابعة إنجازه..كما أشكر الدكتور سمير عبد الحميد إبراهيم، الأستاذ بجامعة الأمام محمد بن سعود الإسلامية، الذي قام بتحرير النص العربي المترجم، وشرح بعض ما استعصى علي فهمه من نقاط وردت في النص الأصلي، وعبارات عربية كتبها المؤلف بطريقة غير واضحة بحروف ( الكاتاكانا) اليابانية، وأشكر أيضاً الدكتور حمد بن ناصر الدخيل، الذي قام بمراجعة الترجمة من الناحية اللغوية والشكر موصول إلى الأستاذ/ أمين توكوماس أحد مديري جمعية مسلمي اليابان في طوكيو على مساعدته إياي في الحصول على نسخة من الكتاب بعد أن نفذت نسخه، وأصبحت في حكم النادر.
والله الموفق،،،
الرياض 1416هـ
سارة تاكاهاشي
اليوم الأول
عبر الجزيرة العربية
جدة وقبر حواء
وصلنا نحن الأربعة: السيد يوكوياما، والسيد ميتسوتشي، ومساعد السيد يوكوياما، وكاتب هذه السطور (ناكانو) إلى مدينة جدة، صباح يوم 26 مارس 1939م، كانت الحرارة 32.3 درجة مئوية، وعند نقطة تقع على بعد ميل من الشاطئ كان علينا أن ننتقل إلى "يخت " صغير تاركين السفينة التي أقلتنا إلى الميناء، نظرا لوجود شعب مرجانية كثيرة تكونت في البحر الأحمر منذ القدم، ودفعني الفضول إلى أن أسأل الرجل الذي كان يقود "اليخت "الصغير عن سبب ترك هذه الشعب المرجانية في البحر هكذا، سألته: لماذا لا تنظفون المنطقة، وتقيمون ميناء طيبا هنا يخلو من المخاطر التي قد تتعرض لها السفن؟ فأجاب قائلا: "إنها الرغبة في الحفاظ على البلاد من خطر السفن المعادية التي لا يمكنها أن تمر من فوق هذه الشعب المرجانية؛ لأن العمق لا يتجاوز المتر وربع المتر تقريبا.. ".
واقتربنا من مبنى الجمرك، وكان " اليخت " الذي نركبه يديره رجل عربي يرتدي "العقال " و "الغترة"، وكان هناك بعض الأمتعة القليلة ومساعد واحد، ونادرا ما كان الرجلان يتبادلان الحديث معا، ولم نكن نشعر بأية ضوضاء بل هدوء، وهدوء، وتعجبت: أهذه هي الشخصية العربية البدوية!
استقبلنا قائمقام مدينة جدة، ورئيس الشرطة، ومدير شركة مصر (للملاحة)، واستعرضنا حرس الشرف ورحب بنا الجنود، ولأنني عشت في مصر حوالي سبع سنوات فقد كان انطباعي الأول عن مدينة جدة طيبا. كانت المدينة هادئة بعد انتهاء موسم الحج، وفيها شاهدنا مكتب الجمارك، ومقر فرع وزارة المالية، ووزارة الخارجية، وتقع كلها وسط المدينة. كما شاهدنا مكتب البريد والسوق. ولفتت انتباهنا البيوت العالية التي شيدث من الحجارة والخشب، واصطفت على جنبات الطريق الذي كنا نمر به.
رأينا في مكتب الجمارك ما يقرب من خمسين آو ستين موظفا وعاملا، يحملون الملابس والبضائع والحاجات اليومية وما شابه ذلك، إلى منطقة نجد، وكان الفندق الذي أقمنا فيه - ويسمى فندق مصر- رائعا وممتازا.
شعرنا بارتفاع نسبة الرطوبة في الجو، وسمعنا أن أمراضا عديدة مثل الملاريا والدوسنتاريا، والكوليرا قد تفشت في موسم الحج، وقد خضعنا قبل ذلك لفحص دقيق جدا، لإثبات خلونا من هذه الأمراض، وذلك في الحجر الصحي في جبل الطور في شبه جزيرة سيناء.
وعدد السكان في جدة 35 ألف نسمة، بمن فيها من أجانب، ويقال: إن عدد الأجانب فيها ستون أوربيا وأمريكيا، وخمس أو ست من النساء، بينما يكثر وجود الأجانب المسلمين من الشام وتركيا وتتاريا. وجدة هي المكان الوحيد في هذه المنطقة الذي يسمح فيه بوجود الأجانب.
وقيل لنا: إن قبر "حواء" يقع هنا بالقرب من منزل فيلبي، لكن لم نعثر له على أثر يذكر، وشعرنا أن المكان قد تعرض لتقلبات الزمان، وتغير فيه كل شيء وسط هذه المنطقة الصحراوية، وكان من الصعب الاعتقاد بأن هذه المنطقة كانت من أكثر مناطق العالم تقدما وازدحاما بالسكان في العصر الجليدي الرابع.
اليوم السابع والعشرون من مارس
الساعة الثالثة عصرا
انطلقنا متجهين إلى الرياض؛ وبرعاية كريمة من جلالة الملك عبد العزيز آل سعود وضع تحت تصرفنا سيارتي ركوب، سيارة لنا، وأخرى للمرشد ورئيس الحرس، كما زودنا أيضا بسيارتين: سيارة نقل واحدة لحمل الخيام والطعام، وأخرى بها ثلاثون من الرجال، وأهدانا الشيخ عبد الله السليمان وزير المالية بعض الملابس العربية: أعطانا غترة ومشلحا وعقالا، وقمنا بالتقاط صورة جماعية بعد أن ارتديناها. لقد أخبرنا بأن نرتدي هذه الملابس العربية، دون إبداء السبب، لكنني أعتقد أنهم لم يرغبوا في أن يشاهد الأهالي الملك يستقبل ضيوفا يرتدون ملابس على الطراز الغربي. غير أنني كنت في غاية السعادة، وأنا أرتدي الغترة والمشلح والعقال، وأصبحنا نبدو أقرب للعرب مما إلى الأوروبيين. كانت أشجار النخيل تنتشر في كل مكان على جانب الطريق، لكننا لم نشاهد زهورا على الإطلاق.
الساعة الخامسة مساء
وصلنا إلى استراحة صغيرة في "بحرة"، كان هناك حوالي 15 أو 16 بيتا، ومخفر صغير ومبنى عام، توقفنا لأخذ قسط من الراحة، واحتسينا الشاي بالنعناع في أكواب من الزجاج، ثم شربنا القهوة أيضا، وكانت هناك " الشيشة"، وعلى حائط الاستراحة كتبت عبارات مثل "لا إله إلا الله " بخط الثلث الجميل، وأعتقد أن كاتبها خطاط محترف.
لم نشعر بوجود التأثير الوهابي الذي سمعنا عنه هنا. والمسافة من جدة إلى بحرة حوالي 30 كيلا، وقد شاهدنا العلم السعودي على أسطح المنازل، ورغم أننا رأيناه في جدة إلا أننا حين شاهدناه في هذا المكان من الصحراء شعرنا بأننا داخل البلاد العربية، رغم أننا لم نشعر بالعالم من حولنا، ولم نشعر بملامح حضارية هنا، إلا من خلال الأكواب المصنوعة في اليابان التي شربنا فيها الشاي والقهوة، ومن خلال أسلاك الكهرباء الممتدة من جدة إلى هذا المكان.
وفي بحرة زودنا السيارات بالوقود، إذ ينبغي لنا أن ننطلق إلى منطقة الوادي، والوصول إلى هناك يتطلب السير إلى الناحية الغربية، غير أن هذا كان طريق الحج الذي لا يمكن أن يمضي فيه إلا المسلم، ومن هنا كان علينا أن نأخذ الطريق من الناحية الشمالية، وهو ليس بطريق بمعنى الكلمة، بل هو ممر ضيق، وعلى الرغم من أننا ضيوف جلالة الملك فإنه لم يكن مسموحا لنا بالسير في هذا الطريق الذي يسلكه الحجاج إلى مكة، وقد سمعت أن اثنين من عائلة أثلون الملكية البريطانية حضرا إلى هذا المكان قبل عامين، ولم يسمح لهما بعبور طريق الحج المؤدي إلى مكة، ولو حتى بطريقة سرية، مما جعلهما يسيران على الممر الضيق نفسه الذي سلكناه نحن أيضا؛ لأن حكم الشريعة الإسلامية واضح، وقوانينها صارمة لا تفرق بين الناس، مهما كانت منزلتهم.
غرز في الرمال
وصلنا إلى طريق ضيق تحفه أشجار السنط البرية المزهرة (الطلح)، ولم نكد نمضي على هذا الطريق حتى اختلفت الطرق التي كانت السيارات تتبعها في سيرها. لم تعد السيارات تمضي معا، وبينها المسافة المعهودة، كان ذلك بسبب الرمال والأحجار الصغيرة، كانت هناك هضاب ومرتفعات بعضها مغطى بالجرانيت، وبعضها ذو أشكال عجيبة، بينما يميل لونها للون البني القاتم. استمرت سيارتنا تمضي بسرعة عشرين كيلا في الساعة.
عم الظلام، ولم تكن للبوصلة أية فائدة هنا، لكننا كنا نتجه ناحية الشرق، وفي حلكة الليل الشديدة كانت سيارتنا فقط هي المزودة بالأضواء الأمامية، وهي الأضواء الوحيدة التي يمكن مشاهدتها من حولنا، بينما كان الغبار يرتفع من حولنا أيضا، وعلى الرغم من أننا أغلقنا كل النوافذ، فإن الرمال كانت تنفذ إلينا داخل السيارة، وانخفضت درجة الحرارة- ربما تدنت إلى 12 أو 13 درجة مئوية- لكن الجو على كل حال كان معتدلا، يميل إلى البرودة المريحة المنشطة.
وفجأة اهتزت سيارتنا، وغاصت عجلاتها في الرمال، كان سائقنا ذا خبرة، وتبدو خبرته أكثر في مثل هذه الحوادث التي تقع عادة في الطريق الصحراوي (كان سائقا لسيارة الملك)، حاول عدة مرات أن يفلت من الرمال، لكن الأمر أصبح أكثر سوءا.
انتظرنا السيارات تأتي من ورائنا، ولكنها لم تصل كما توقعنا، فأوقفنا محرك سيارتنا وقنعنا بالانتظار، وساد الصمت الذي لم يكن يقطعه سوى صوت بعض الحشرات، وبعد فترة قدمت إحدى السيارات، كان فيها المرشد ورئيس الحرس وبعض المساعدين، فترجلوا من سيارتهم، وحاولوا مساعدة سيارتنا، واخراجها من الرمال، وأخبرونا بأن الناقلتين قد تعرضتا للمصير نفسه. خرجنا جميعا من السيارة، ثم رفعناها من الرمال، وأخذ رئيس الحرس يشكرنا، ويمتدح ما قمنا به من عمل، ويثني على تعاوننا هذا !
وطبقا لما قاله لنا رئيس الحرس، فقد كان يحرس الملك ويلازمه طوال الوقت، أما الآن فهو الحارس الخاص لعبد الله السليمان وزير المالية، كان الرجل مهذبا مؤدبا معنا إلى أقصى درجة، وكان وزير المالية قد عينه لحراستنا بصفة خاصة، ونشاهده دائما يحمل بندقية طويلة على كتفه ويتمنطق بخنجر، ويبدو لنا رجلا شجاعا لا يهاب أحدا.
بعد عشرين دقيقة تمكنت عربتنا من الخروج من الرمال، وتابعنا المسير من جديد، وحاولنا أن نسير بسياراتنا في طرق متقاربة حتى لا يتعرض أحد منا للضياع أو للعطل، كان الطريق معوجا يرتفع وينخفض، وأصابنا جميعا التعب والإرهاق.
أخبرنا سائقنا أنه سبق له قيادة السـيارة بين جدة والرياض مرات عديدة، لكنه كان دائما يسلك الطريق المسمى "السكة السلطانية" والطريق الذي سلكناه نحن يسمى "السكة الذهبية"، وكانت القوافل قديما تستخدم هذا الطريق، ويبدو طريق "السكة السلطانية" أفضل كثيرا، وأكثر أمنا وأمانا.
وتساءل السائق: لماذا كان علينا أن نسلك الطريق الأصعب ؟ لم يكن يعرف أن غير المسلمين لا يمكنهم المضي في الطريق الآخر، أي طريق "السكة السلطانية" الذي يؤدي إلى "مكة"، وذكر السائق أنه كثيرا ما كان يسوق سيارة الملك عبد العزيز بن سعود، وكانت إذ ا "غرزت " السيارة بهم في الرمال، هب الملك لمساعدته في رفع عجلات السيارة من الرمال، وقال: إن الناس اعتادوا على مناداة الملك بالحاج عبد العزيز، دون ذكر لقبه الملكي. واستمر الحديث على هذا المنوال بينما كانت السيارة تغوص في الرمال مرة بعد مرة، ولم يكن المرافقون والحراس يبدون تذمرا من هذا الأمر أو يتململون. حقا إنها طبيعة الصحراء الصعبة، التي لا يمكن للإنسان أن يتدخل فيها أو يغيرها، ولهذا فلا ينبغي أن يشكو الإنسان قسوة هذه الطبيعة، وهؤلاء العرب الذين معنا عرب أقحاح أصلاء، عاشوا هنا منذ مئات السنين بل آلافها، أجسادهم مغطاة بالرمال والعرق، وجلودهم صارت كلون أشجار الصنوبر.
هكذا سنحت لنا الفرصة لنشاهد الأجساد العربية الأصيلة، وكنا كلما سرنا ثلاثة أو أربعة أمتار نزلنا لنحرك العجلات التي غاصت في الرمال، وتعبنا جميعا، وأخذ منا التعب مأخذه، ولكننا كنا أقوياء؛ ولذلك تحملنا المشقة نفسها التي تحملها رفاقنا العرب، إلا أن برودة الهواء في الليل جعلتنا نصاب بالسعال والزكام.
حفل الشاي العربي
بعد مضي فترة من الزمن، وعلى بعد حوالي ستين كيلا تقريبا من مدينة جدة- كان عداد السرعة بالسيارة معطلا- وصلنا إلى قرية صغيرة يقال لها (الجعرانة)، فاستقبلنا أميرها وأشعل النار، وأعد لنا الشاي، وحين تحلقنا حول النار كان هناك حوالي خمسة عشر أو ستة عشر رجلا عربيا من كبار القرية يجلسون معنا، وقد رحبوا بنا ترحيبا عربيا حارا، وحيانا الأمير بلهجة حجازية، فقام عبد السلام- رئيس الحرس- يشرح ما قاله الأمير بلغة عربية فصحى، عرفنا أنه أمير القرية، وأن الملك عينه مباشرة أميرا عليها.
وحول النار دارت فناجين القهوة العربية والشاي المعد على الطريقة العربية، كانت هذه أول مرة ننال فيها هذا الشرف، ونجلس مع مثل هؤلاء الناس، منذ وصولنا إلى المملكة العربية السعودية.
كانت القهوة مرة جد ا، ولكن كانت أفواهنا مليئة بالرمال والأتربة، ولذلك بد ا هذا الطعم المر للقهوة العربية لذيذا جدا، لقد شربتا القهوة العربية في سفارة المملكة العربية السعودية في القاهرة، وفي بغداد، ولكن لم تكن مثل هذه القهوة التي أشربها الآن. لقد شعرت أن هذه هي القهوة العربية الحقيقية بلا منازع.
كان الذين يقدمون القهوة يدورون حولنا مرة بعد الأخرى، وعرفنا أننا لو حركنا الفنجان في يدنا مرتين أو ثلاثا فهذا يعني أننا لا نرغب في شرب المزيد من القهوة. بعد ذلك تحدثنا مع الأمير وبقية كبار القرية مدة نصف ساعة أو أكثر قليلا، في بداية الحديث قال الأمير: إنه مسرور بلقاء وفد ياباني هنا لأول مرة! وجرى الحديث في موضوعات كثيرة، فذكر الأمير أنه خلال حكم الحسين بن علي لهذه المنطقة كان العديد من البدو قطاع الطرق يهاجمون الناس المتوجهين للحج، ويغيرون على قوافل التجارة، وكانت المنطقة في خطر نتيجة تهديد هؤلاء البدو الذين لم تكن عساكر الحسين بقادرة على مواجهتهم والقضاء عليهم، ولكن بعد قدوم الملك عبد العزيز آل سعود استتب الأمن، وتمكن من السيطرة على المنطقة جيدا. وهكذا أصبح الطريق أكثر أمنا، والناس الذين يأتون للحج لم يعودوا يخافون شيئا.
وأثنى الجالسون على الملك عبد العزيز آل سعود، وأثنوا أيضا على نظام الإخوان الذي أسسه الملك عبد العزيز، وذكروا لنا مرة بعد مرة مقدار ما يكنونه له من حبا وتقدير. بجوار النار توجد بئر، وهي منحة من الملك لأهل القرية حفرها لهم، والملك نفسه حين يذهب إلى مكة ينزل في هذا المكان ويشرب من ماء البئر، هذه عادة يتبعها الملك دائما.
وذكر أحدهم أن هذا المكان له أهمية تاريخية، لأن النبي محمدا صلى الله عليه وسلم حين هاجر إلى المدينة، وأراد أن يؤدي فريضة الحج أول مرة ضرب خيامه في هذا المكان، وأصبح يطلق عليه "ميقات الإحرام ".
كل هذا كان يشرحه لنا عبد السلام الذي تولى الترجمة أو الشرح بالعربية الفصحى، وهو مصري تخرج في جامعة الأزهر، ثم ارتحل إلى مكة واستقر بها، وهو يدير فندق مكة، ويثق فيه الملك كثيرا، وهو رجل ذكي جدا ومهذب، ويعمل أيضا مراسلا صحفيا للصحف المصرية،وكان يعرف جيداً كيف يتعامل مع أمثالنا.
قبل العاشرة بدأنا المسير، وكنا قدرنا الارتفاع عن سطح البحر، فكان. 300 متر، كان الطريق وعرا، وواجهنا مرة أخرى مشكلة الرمال، وتوقفنا ونزلنا من السيارة، واضطررنا لرفع السيارة مرة بعد مرة، فشعرنا بالتعب، لكن مرافقينا العرب لم يشعروا بما شعرنا به، ولا أزال أتذكر كلمات (تغريز)، (غراز)، (غرزت) وهي ترن في أذني حتى الآن.
وبعد حوالي ثلاثين كيلا التقينا بقافلة صغيرة تتكون من عشرين أو ثلاثين جملا تحمل البضائع والحاجات اليومية في أجولة من الجوت والصناديق الضخمة. وكان أحد الجمال يتقدم القافلة كأنه قائدها، وكأن الإنسان الجالس على ظهره ليس سوى زينة فقط، وتذكرت كلمات الرحالة " داوتي " عن الصحراء العربية:
" في الصحراء الإنسان تابع للجمل ".
الساعة العاشرة والنصف
مرت سيارتنا بواحة بها بيوت قليلة، أخذنا الماء وتحركنا ثانية، وكلا على ارتفاع 430 مترا عن سطح البحر، والهواء صار أكثر برودة.
شعرنا فجأة بالبرودة الشديدة، ومررنا بجانب مجرى مائي يمضي بين الصخور، ووصلنا إلى قرية تسمى (الزيمة) يبلغ سكانها 2000 أو 3000 نسمة، وفي هذا المكان تستقر قبيلة كانت تسلب وتنهب وتقطع الطريق، ويذكر أن البريطاني (داوتي) وصل إلى هذه المنطقة واستراح عند "عين الزيمة"، ويقال: إنه تعرض لهجوم هؤلاء الناس، لأنهم اكتشفوا أنه نصراني، ولهذا تملكنا الخوف ونحن نمر بهذه المنطقة، ليس معنا نقود، وكنا نرتدي على رؤوسنا الزي العربي، وأشعر الآن مقدار ما قاساه "داوتي " في هذه المنطقة من متاعب وقد استفاد " لورنس " الكثير من مذكرات "داوتي ".
لم نتمكن من البقاء هنا مدة أطول، إذ كان علينا أن نصل إلى محطتنا التالية " السيل ".
وفي منتصف الليل شعر سائقنا بالدوار فجأة؛ لأن الطريق أمامه كان يعلو ثم يهبط، ويتلوى أمامه كالثعبان، ولهذا قام السيد يوكوياما بقيادة السيارة، كان الأمر في غاية الصعوبة وكانت السيارة تمضي بسرعة ثلاثين كيلا في الساعة، والارتفاع عن سطح البحر وصل إلى أكثر من خمسمائة متر، شعرنا جميعا بالحاجة إلى النوم، لكن كان علينا أن نمضي كما لو أن الطريق يقودنا رغما عنا إلى الجحيم. ظلمة حالكة، وطرق وعرة ملتوية. وبعد فترة وجدنا الطريق الرئيس المؤدي إلى مكة، فأصبحنا على بعد 150 كيلا من جدة.
أولمبيا العرب. بقايا عكاظ.. السيل
الساعة الواحدة صباحا
وصلنا إلى السيل، وقد استغرق ذلك وقتا طويلا، فقد غادرنا جدة في الساعة الثالثة مساءً،
شاهدنا ناراً وحين قربنا منها وجدنا عددا قليلا من البيوت الصغيرة.
فنزلنا من السيارة، وشعرنا بالبرد الشديد، فقد كانت درجة الحرارة منخفضة جدا، وبدأ الرجال الثلاثون المرافقون لنا ينصبون الخيام، ويعدون الطعام، وبعد نصف ساعة كان الطعام معداً. وجاء عبد السلام وشرح لنا أن الخيمة الأولى ستكون من نصيب الوزير الياباني، والثانية لنا، وخيمة لتناول الطعام، وأخرى تستخدم دورة مياه.
في الخيمة المعدة لتناول الطعام وضعوا منضدة وكراسي وأطباقا، وفرشوا على المنضدة مفرشاً أبيض، لقد اهتموا فعلاً بنا اهتماما كبيرا، وحرصت الحكومة السعودية على توفير الراحة لنا، فقد جهزت الخيام المعدة للنوم بالأسرة التي كانت من النوع البسيط، الذي يستخدم في المعسكرات، إلا أنها زودت بالألحفة والمفارش، وفرشوا أرض الخيمة بسجادة يبدو أنها مصنوعة في مصر، وكان اتساع الخيمة أكثر من خمسة أمتار مربعة، وهي منسوجة من القماش السميك، ومن العجيب أن نجد عليها شريطا كتب عليه مصنوع في اليابان أوساكا made in Japan osaka كان من غير المتوقع أن نرى شيئا مصنوعا في اليابان هنا في هذه الصحراء، كنا جوعى جداً وكان الطباخ السوداني قد أعد لنا حساء طماطم من العلب الجاهزة، كما أعد لنا خبزاً عربياً ودجاجاً مشوياً وكبابا، وأرزا محمرا باللحم، ومهلبية، بالإضافة إلى البرتقال والتفاح، فكان الطعام بالنسبة لنا مليئا بالسمن، لكن بعد هذه الرحلة الطويلة كان هذا الطعام من ألذ ما أكلته في حياتي. وفي أثناء تناولنا الطعام كان مرافقونا العرب يؤدون الصلاة جماعة.
بعد تناول الطعام خرجنا من الخيمة، وأخذنا نشاهد المنظر من حولنا، كان الجو باردا جدا، وكانت البوصلة تشير إلى ناحية الشمال بدرجة قدرها 21.5 شمالا، وكنا نشاهد نجوم الشمال واضحة، وقبل النوم تناولنا"أسبرين " للتخفيف مما لحق بنا من تعب وإرهاق، وأعطينا " شاكر" السائق بعض الأسبرين، لأنه مرض في الطريق وأصيب بالدوار.. وكذلك أعطينا عبد السلام، ونام رئيس الحرس في خيمة الطعام، ونام المرافقون خارج الخيام، وقبل النوم مباشرة قمنا بجولة قصيرة حول الخيام، ثم دخلت الخيمة، وكتبت بعض المذكرات، ثم أويت إلى فراشي، ورحت في نوم عميق.
اليوم الثاني
الثامن والعشرون من مارس
المعلقات السبع
في أول ليلة قضيناها في الجزيرة العربية نمنا نوما عميقا داخل الخيمة، لم أشاهد أية أحلام في منامي، استيقظت الساعة السادسة صباحا، وكان الجو باردا، إذ كنا على ارتفاع 1550 مترا فوق سطح البحر، لم تكن هناك رطوبة على الإطلاق خارج الخيمة، يمكن أن أرى قرية صغيرة هناك عبر الوادي. ذلك موضع سوق عكاظ قبل الإسلام، الذي يقام كل عام، فيجتمع فيه العرب ينشدون الأشعار ويتفاخرون، بينما الفتيات العربيات يخطرن هنا وهناك، بعيونهن الواسعات وأجسادهن ذوات اللون القمحي الداكن.
وهكذا وجدت المعلقات، ووجد شعراء كبار من أمثال: امرئ القيس، وزهير بن أبي سلمى، والنابغة الذبياني، وعمرو بن كلثوم وغيرهم، كان شعرهم يركز على المرأة، والخمر، والصحراء، والجمل والفرس. لقد تعلمت هذا مرة في كلية الآداب بجامعة القاهرة، حين درست على يدي الأستاذ الدكتور طه حسين- ذلك الأديب الضرير المشهور- الأدب الجاهلي، والحياة في البادية، وحياة العربي في الجاهلية، وتأثرت كثيرا بهذا الشعر الجاهلي الرائع، والآن أرى كل شيء أمام عيني، بقايا خلفية هذا الشعر الذي نظمه أولئك الشعراء، الذين قدموا من أواسط نجد، ومن بلاد طيء شمال نجد، ومن البحرين، إلى هذه المنطقة التي أشاهدها أمامي، كانت الرحلة خطرة بالنسبة لهم، لكن رغبتهم في أن تكون أشعارهم معلقة على جدار الكعبة كانت هي الدافع وراء هذه المعاناة، للوصول إلى هذا المكان، وكانت العاطفة القوية هي أساس حياتهم البدوية في تلك الفترة، لقد تعجبت كثيرا، ففي هذا الشعر يمكنهم أن يعبروا عن أحاسيسهم بتعبيرات متنوعة ومتفرقة، مستخدمين كلمات ومفردات تحمل معاني مختلفة، وظلالا متباينة، يقولون ذلك في حرية مطلقة، ومما يؤسف له أن أدباء أوربا ينتقدون هذه الأشعار، وأعتقد أن السبب هو عدم فهمهم لمعاني كلمات الشعر العربي.
وتجدر الإشارة إلى أهمية هذه المعلقات لمعرفة الإسلام والمسلمين في تخليص حياة العرب مما علق بها من شوائب وأخطاء، لأن هذه الفترة هي الفترة التي تمخض عنها الإسلام، أي الفترة السابقة للإسلام، لهذا فهي توفر معلومات مهمة عن فترة ما قبل الإسلام.
استخدم الوزير الياباني يوكوياما، والمهندس ميتسوتشي دورة مياه الخيمة التي كانت عبارة عن حفرة وسط الرمال فقط، وكنا شاكرين فضل مرافقينا لأنهم جعلوا دورة المياه مغطاة.
الساعة السابعة صباحا
ارتفعت الشمس عالية، وارتفعت درجة الحرارة في زمن وجيز، وانشغل رفاقنا العرب بإعداد طعام الإفطار، وفي أثناء ذلك اقترب منا خمسة أو ستة أطفال من العرب، تتراوح أعمارهم ما بين السابعة والثامنة، كانوا جميعا يلبسون ملابس صنعت من جلود الأغنام وفروها، وبدا من مظهر شعورهم أنهم لم يحلقوا رؤوسهم أبدا. أكبرهم فتاة في التاسعة أو العاشرة، بدت مغطاة تماما، وهربت، كان الأطفال حذرين وخائفين منا، ولكن بعد أن أعطيناهم بعض "البسكويت " اختفى الخوف من وجوههم؟ فاقتربوا منا، وبدءوا يتحدثون معنا، فسألتهم عن إخوتهم وآبائهم، فأجابوا عن أسئلتي بلغة عربية فصحى! لم يتح لهم شيء من التعليم، فكانوا لا يعرفون القراءة ولا الكتابة، وبدت بيوت القرية مبنية من الطين وصخور الجرانيت، وتقدر بحوالي مائة بيت، يعيش فيها 300 نسمة، هكذا قال عبد السلام، ويقع هذا المكان على بعد 190 كيلا من جدة، و40 كيلا من مكة.
وفي المنطقة جبل اعتاد الناس أن يستريحوا عنده، أثناء ذهابهم للحج، قبل وصولهم إلى مكة، لاعتدال جوه ونظافته، وقد قدم إلى هنا مفتي فلسطين الحاج أمين الحسينى، وكان قائد الحركة في فلسطين، وقد بذل وساطة بين اليمن والمملكة العربية السعودية، ويقال: إن الملك عبد العزيز آل سعود يحب هذه المنطقة كثيرا.
الساعة السابعة والنصف
بدأنا في تناول طعام الإفطار المكون من: الشاي، والحليب، والبيض المقلي، وبعض الحلوى، والبرتقال، كان الحليب حليب الماعز، وكان البرتقال لذيذا جدا، فأكلت منه كثيرا، وبعد أن فرغنا من الطعام قوض مرافقونا العرب الخيام، وبعد عشر دقائق ركبوا الناقلة، وبدأنا نتحرك.
الساعة الثامنة وخمس وأربعون دقيقة
تركنا المكان، وبعد عشر دقائق وصلنا إلى واد يقع بين جبلين، وبعد نصف ساعة مضينا في طريق ضيق جدا، يسمح بمرور عربة واحدة فقط، وإذا سقط المطر، تحول هذا الممر إلى مجرى مائي، ولهذا كان على السائق أن يقود السيارة بعناية فائقة واحتياط شديد، وعلى كل حال فقد تناول بعض حبات من " الأسبرين " ليلة أمس، لذلك كان يشعر بالراحة، وسرنا بسرعة 20 كيلا في الساعة، وبعد مضي ساعة وصلنا إلى نقطة مفرق بين الحجاز ونجد، كان الارتفاع هنا 1100 متر فوق سطح البحر، وهذه هي أعلى نقطة مرتفعة في هذه المنطقة.
اجتزنا المنطقة الجبلية، وبدأنا نمضي وسط منطقة منبسطة مليئة بأشجار الطلح وأشجار السلم، كان الطريق سهلا، لكنه ملتف بالأشجار التي اعترضت طريقنا، مما اضطرنا إلى النزول من السيارات لإزالتها من أمامنا.
بئر عشيرة
الساعة العاشرة وعشر دقائق
وصلنا إلى مكان يدعى "عشيرة" فلم نشاهد شيئا من البيوت أو الخيام، بل كل ما شاهدناه كان بئرا وسط الرمال، ورأينا حولها أربعين جملا وخروفا، وخمسة عشر راعيا يحملون قرب الماء المصنوعة من جلود الغنم وكان الجو معتدلا؛ فدرجة الحرارة لا تتعدى 30 درجة مئوية. كان هؤلاء الرعاة منهمكين تماما في استخراج الماء من البئر، وسقي إبلهم وأغنامهم، وحمل الماء إلى حيث يذهبون بأنعامهم في عمق الصحراء، كانت البئر محاطة بالمياه المتساقطة، وبمخلفات الحيوانات التي انبعثت منها رائحة كريهة، وبجانب البئر شاهدت لوحة كتب عليها:
" بسم الله الرحمن الرحيم، هذا البئر حفرها عبد العزيز بن عبدالرحمن آل فيصل 1353 هـ (1934م) ملك المملكة العربية السعودية"
وأعتقد أن هذا كان تعاطفا من جانب الملك مع البدو، ورغم أنه حفر بئرا واحدة، فإنها مفيدة جدا، ولها منفعة كبرى للبدو في هذه المنطقة، والبئر ليست عميقة، ونسبة ملوحة الماء فيها مرتفعة، ورغم أن اللوحة المكتوبة تشير إلى أن الملك حفر البئر فإن "داوتي " ذكر هذه البئر أيضا.
أخذنا نشاهد الأحجار في هذه المنطقة، وهي أحجار سوداء يطلقون عليها (حرة) أو (حرار) ويقال: إن الجزيرة العربية منذ قديم الأزمان- حين انفصلت عن كتلة أفريقيا- كانت درجة حرارة هذه الأحجار فيها قد وصلت إلى 1500 درجة مئوية، لهذا ماتت جميع المخلوقات، وبقيت هذه الأحجار شاهدة على هذا الحدث.
طريق معبد لم تصنعه يد البشر
الساعة الحادية عشرة
وصلنا إلى أرض منبسطة واسعة، سطحها مغطى بأحجار شديدة الصلابة، وبدا الطريق الذي نسير عليه مثل طريق قد تم رصفه وتعبيده في بلد من البلاد المتقدمة، وهنا سارت السيارة بسرعة تجاوزت مائة كيل في الساعة، فكانت هذه أول مرة نقود السيارة بهذه السرعة العالية. سافرت مرة إلى الصحراء أثناء وجودي بمصر، شعرت هناك بعظمة الطبيعة، لكن شعوري هنا مختلف، فأنا أشهد بأن الطبيعة هنا قد جاوزت حدود الوصف، شعرت بالعظمة الإلهية، فلا شيء ولا أحد غيرنا هنا. كان علينا أن نخفف السير أحيانا بسبب الطلح التي تعترض الطريق، لكننا كنا بعد دقائق نعود إلى السرعة التي مضينا عليها في الطريق المعبد، الذي لم تصنعه يد البشر.
قرأت مرة قصصا عربية وحكايات، وكنت أفكر في "الجن " الذين ورد ذكرهم في (القرآن الكريم)، والآن أجد نفسي في مثل هذه الظروف، وفي مثل هذا الجو الذي يجعل أحد الجن يظهر أمامي بسهولة، لهذا أعتقد أن العرب القدامى الذين تحدثوا عن الجن لم يتحدثوا عنهم من فراغ، ولا من وحي خيال، بل تحدثوا عنهم من خلال معايشتهم لمثل هذه الطبيعة الصعبة التي تضمني الآن، لقد أوجدوا الجن في حياتهم، ولابد أنهم شاهدوهم حقيقة، فلم تكن هناك سيارات، ولم تكن هناك مبان ولا بيوت، لم يكن شيء سوى أشجار هنا وهناك، ولابد أنهما كانوا يشاهدون أشكالا غريبة من الصخور، يحولها ضوء الشمس الشديد أمامهم إلى أشكال أقرب إلى الجن منها إلى أي شيء آخر.
ولقد وجدنا الآن مخلوقات صغيرة من حولنا.. لم نجد ناقة ولا بعيرا ولا إنسانا، بل وجدنا طيورا لها ريش رمادي، ونسورا بها خطوط بيضاء على أجنحتها، شاهدنا طيورا خضراء جميلة، لكن أهم ما لفت نظري هو"الضب "، لونه بني يميل إلى الصفرة، كلون الرمال، رجلاه طويلتان أطول من رجلي الضب الذي عرفناه، والذيل قصير أقصر من جسده، يبحث في النهار عن الطعام فيخرج من جحره، وفي الليل يأوي إليه، وحركاته سريعة جدا، يقول العرب:
إن ذيل الضب لذيذ جدا، ويجعل العمود الفقري للإنسان الذي يأكله قويا وصلبا. وقوة العمود الفقري وصلابته يفخر بهما العرب كثيرا؛ لأنهم إذا سافروا بالجمل، فإنهم في حاجة إلى أن يكون عمودهم الفقري قويا.
محطة خدمة السيارات (المويه)
كانت السيارة تمضي بسرعة 60 كيلا في الساعة، وقد توقفنا للراحة في الطريق، وتناولنا عصير البرتقال.
الساعة الواحدة ظهرا
نزلنا عند "المويه "، وهي عبارة عن محطة خدمة للسيارات، وبقايا قلعة مضى على بنائها نحو 14 أو 15سنة، وكان الملك عبد العزيز يتوقف في هذا المكان للتزود بالوقود.
حين وصلنا إلى هذه المنطقة، وجدنا حوالي ستين شاحنة توقفت للتزود بالوقود، وكان الوقود قد وضع في حاوية ضخمة في ركن من أركان المحطة، ويعد هذا المكان محطة للذاهبين إلى مكة وجدة والمدينة، كما أنه محطة لسيارات البريد، وكذلك سيارات نقل البضائع.
تقرر أن نتناول الطعام في أطلال القلعة، وفي أيام الحج يقيم العسكر في هذا المكان، حيث بقايا سقف قائم على صخور ترفعه دون وجود حوائط، ولكنهم يقولون إنهما سيعيدون بناء هذه القلعة مستقبلا، واخترنا غرفة تبدو مريحة، فرشنا أرضيتها بالسجادة، ووضعنا فوقها الأطباق، وبدأنا في تناول الطعام، كان الطعام مشابها لطعامنا أمس تماما.
ثم غفونا فترة قليلة، ولم يقلقني سوى رائحة الرمال والرطوبة العالية هنا، وفي الجزيرة العربية فإن أي مكان يوجد فيه قليل من الماء فذلك يعني وجود خضرة، وهذا يجعل من المكان استراحة للبدو، وسوقا للقوافل. وقد عانينا كثيرا من الذباب.
وقد تعودت على الذباب في القاهرة، ولكن لم أكن أتوقع أن أجد هذا الذباب وبهذا الشكل في مثل هذه المنطقة.
الساعة الخامسة عصراً
استأنفنا السير في اتجاه الشمال، وبعد فترة وجدنا أنفسنا نمضي في أرض مختلفة، لونها أبيض، وتراءت لنا صخور الجرانيت البيضاء من يمين ويسار، ومضينا بسرعة 50 كيلا في الساعة، وأحيانا بسرعة 70 كيلا في الساعة، كان المهندس ميتسوتشي ينزل أحيانا من السيارة، لأنه يريد أن يفحص الرمال والصخور، ويجمع بعض قطع الأحجار، فهو مهتم بدراسة جيولوجيا المنطقة، وبقياس الارتفاع عن سطح البحر، وكذلك اتجاه البوصلة، كان يستخدم المكبر للرؤية الدقيقة. ويبدو مبهورا جدا بما يرى تحت هذا المكبر (المنظار المكبر)، لم نر الآن أية مخلوقات، وكنا نمضي على وتيرة واحدة، ولم أكن أشعر أبدا بالملل. لا أدري لماذا؟
ربما لأنني أحب الصحراء، وأعشق هذه الطبيعة الخلابة، وأحاول أن أفهم الإسلام، هذا الدين الذي نبت وسط هذه البيئة.
من خلال مظهر الطبيعة في هذا المكان يبدو أنه لا شيء يتغير من حولك، لكن يجب أن نعرف كيف تعيش المخلوقات البسيطة وسط هذه الظروف الصعبة، وكيف تكون قوة الطبيعة هنا. هكذا ولد الإسلام وسط هذه الظروف الصعبة، فنشأ قويا صلبا، أعتقد هذا.
النار فوق الهضبة عند الدفينة
غربت الشمس وساد الظلام، وعند الساعة الثامنة وخمس عشرة دقيقة، شاهدنا نيرانا وسط الظلام، حيث توجد "الدفينة" المكان الذي سنقيم فيه الليلة.
بدأت أشعر بالعزلة هنا أكثر مما كنت عليه أمس، حيث كنا بالسيل، لأن مكان أمس كان يسمح لنا بأن نشم رائحة (البحر الأحمر)، وكنا لا نزال بجوار الحضر والمدنية، ولكن هنا لاشيء، لاشيء على الإطلاق. فنحن في مكان بعيد جدا عن أي مكان يعيش فيه الناس. هدوء يسيطر على كل شيء، هدوء مخيف، هدوء يبعث على الجزع، النار التي شاهدناها أشعلها اثنان أو ثلاثة من البدو، ضربوا خيامهم هناك، اقتربنا منهم، وبدأ العرب المرافقون لنا يقيمون الخيام، ويجهزون الطعام، وتم كل ذلك في سرعة فائقة ومدهشة، في مدة نصف ساعة فقط كان كل شيء معدا تماما، الطعام نفسه كطعام ليلة أمس، البرتقال الذي حملناه معنا ضمر بسبب حرارة الشمس، وفي أثناء تناولنا الطعام كان مرافقونا العرب يؤدون الصلاة. وبينما كنا نسمع صوتهم، وهم يصلون كنا نشعر بالوحدة، وبالخوف، ونشعر بالتعاطف، وبنورانية وشفافية في داخلنا، كنا نشعر بالتناغم والانسحاب، كما لو كانت صلاتهم هذه شيئا رائعا يدخل إلى القلب فيثير فيه مشاعر متنوعة. تجولنا قليلا حول الخيام، وفي الساعة الحادية عشرة تقريبا أوينا إلى الخيام للنوم، كانت درجة الحرارة 13.4 درجة مئوية، بينما كان الارتفاع 860 مترا فوق سطح البحر.
</B></I>