رئيسية المنتدى

ادعم الرحلات في الفيس بوك

الرحلات على تويتر

 
العودة   منتديات الرحلات > المـنـتـــديــــات الأســاســـية > رحلات أثرية والأطلال

إضافة رد
 
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 05-11-10, 09:23 AM   #1
عارف الشعيل
 
افتراضي الرحلة اليابانيه الى الجزيرة العربية -----------

مقدمة الكتاب



في مايو 1938م (السنة الثالثة عشرة من التقويم الياباني شوا) زار الشيخ حافظ وهبة (سفير المملكة العربية السعودية في بريطانيا) اليابان لحضور حفل افتتاح مسجد طوكيو الذي بني في منطقة (يويوغي). وحث الشيخ حافظ وهبة وزارة الخارجية اليابانية على إرسال وفد ياباني إلى المملكة العربية السعودية، لدعم الروابط بين البلدين، فلبت وزارة الخارجية اليابانية الدعوة، وأرسلت وفدا يتكون من السيد "ماسويوكي يوكوياما" الوزير المفوض في سفارة اليابان في مصر، والسيد تومويوشي ميتسوتشي، وكان مهندسا بوزارة شؤون الصناعة والتجارة الدولية، وكاتب هذه السطور إيجيرو ناكانو، وكنت أعمل آنذاك في السفارة اليابانية في القاهرة.
وصلنا إلى مدينة جدة في الرابع من صفر عام 1358هـ (السادس والعشرين من مارس سنة 1939م)، وفي الواحد والثلاثين من مارس بلغنا مدينة الرياض، حيث قطعنا الطريق وسط الجزيرة العربية بالسيارة، وبقينا في الرياض عشرة أيام، ويتحدث هذا الكتاب عن مشاهداتنا في الأيام العشرة التي أمضيناها في الرياض، والأيام التي قضيناها في رحلتنا في قلب الجزيرة العربية.
في تلك الأيام لم يكن هناك سوى القليل جدا من الأوربيين الذين زاروا مدينة الرياض، ومعظمهم من المغامرين البريطانيين، أو العسكريين. أو من الدبلوماسيين، وكانت هذه أول مرة يزور فيها ياباني هذه المنطقة، وقد عوملنا معاملة المسؤولين المهمين والضيوف الرسميين، وتمتعنا بكرم الضيافة العربي، فوضعت الحكومة السعودية تحت تصرفنا خمس سيارات، وثلاثين مرافقا، ظلوا معنا طوال رحلتنا، فلم تواجهنا صعوبة تذكر، على الرغم من أنها تعد الزيارة الأولى لتلك البلاد، فقمنا برحلتنا في أمن وأمان، وكانت تجربة رائعة لنا جميعا.
في تلك الأيام كانت أوربا تتحول إلى ميدان معركة كبير، وكانت بلدان جنوبي غرب آسيا على وشك المعاناة أيضا، ومن هنا وجب علينا أن نأخذ الحيطة والحذر، فالمنطقة مثلها مثل بقية بلدان آسيا، وكان علينا أن نفهم هذه المنطقة جيدا، وأن ندرك- بصفة خاصة- الروح الإسلامية التي يتمتع بها أهلها.
وأتمنى أن يسهم هذا الكتاب في دعم روابط الصداقة بين بلدان جنوب غربي آسيا واليابان.
وأخيرا أشكر الحكومة السعودية، وجميع من رافقونا في رحلتنا على مديد المساعدة الكريمة لنا خلال رحلتنا، وأدعو الله أن يرعى جلالة الملك عبد العزيز وولي عهده ويحفظهما.




يوليو 1941م


إيجيرو ناكانو


طوكيو- اليابان








مقدمة المترجمة







أضع بين يدي القارئ العربي- أول مرة- هذه الترجمة العربية لكتاب "كايسونوارابيا كيكو "يوميات رحلة في الجزيرة العربية " لمؤلفه إيجيرو ناكانو ( Eigiro Nakano ) الذي كتبه باللغة اليابانية بعد عودته من المملكة العربية السعودية عام 1358هـ/1939م، ونشر أولا في حلقات بدءا من رمضان 1358هـ/ نوفمبر 1939م، وحتى محرم 1360هـ/ فبراير 1941م في مجلة كايكوسيكاي (Kaikyo Sekai) أي (مجلة العالم الإسلامي)، ثم صدر في كتاب في شعبان 1360هـ/ 22 سبتمبر 1941م في طوكيو باليابان.

وكانت حكومة المملكة العربية السعودية قد قدمت دعوة إلى المسؤولين في الحكومة اليابانية لزيارة الرياض، ونقل الدعوة الشيخ حافظ وهبة سفير جلالة الملك عبد العزيز- يرحمه الله – في بريطانيا، تقديرا لما قدمته الحكومة اليابانية من مساعدة في إنشاء مسجد طوكيو عام 1357هـ/ 1938م.
وتلبية لهذه الدعوة أرسلت الحكومة اليابانية إلى الرياض الوزير الياباني المفوض في سفارة اليابان بالقاهرة، على رأس وفد ضم مؤلف الكتاب "إيجيرو ناكانو "، وتعد هذه أول زيارة رسمية يقوم بها مسؤولون في الخارجية اليابانية إلى المملكة العربية السعودية.
ونظرا لأهمية هذه الرحلة، ولما يتمتع به كاتبها من ثقافة إسلامية عربية، جعلت من رحلته هذه وثيقة تاريخية مهمة، رأيت من المفيد ترجمتها إلى اللغة العربية، توثيقا للعلاقات السعودية اليابانية من جهة، ودفعا للباحثين إلى المزيد من تقصي الحقائق عن تاريخ العلاقات العربية اليابانية من جهة أخرى.
تخرج الكاتب في جامعة أوساكا للغات الأجنبية، قسم اللغة الألمانية، والتحق بالعمل في وزارة الخارجية سنة 1352 هـ/ 1933 م، ثم سافر إلى القاهرة، وأقام فيها سبع سنوات، درس- وفق ما قال- في الأزهر وفي جامعة فؤاد الأول(جامعة القاهرة) ويقال: إنه عمل أستاذاً بجامعة أوساكا للغات الأجنبية
وفي أثناء ترجمتي للكتاب لاحظت أن علاقة الكاتب بالإسلام وثيقة، وهي أعمق من أن تكون علاقة ثقافية فقط، وإن لم يعلن عن هذا في كتابه صراحة، وصوف يؤيد القارئ وجهة نظري، حين يطالع ما كتبه عن مشاعره عند سماع الأذان، ورغبته القوية في القيام بأداء الصلاة، فهو يقول " ورحت أصلي من داخل فؤادي" وأيضاً حين تحدث عن الآيات القرآنية التي وردت على خاطره.. وتفسيره الدقيق لمعناها..فكل هذا لا يصدر ألا عن رجل معجب بالإسلام، وهذه نقطة مهمة تحتاج إلى بحث واستقصاء.
وفيما يتعلق بالترجمة التزمت الدقة في النقل، مع الحفاظ على روح النص الأصلي، وطريقة البيان في اللغة اليابانية، وإذا كانت إقامتي في الرياض تسع سنوات قد ساعدتني على فهم ما ذكره المؤلف في رحلته، فإن لغته اليابانية القديمة التي مضى عليها أكثر من نصف قرن، أتعبتني كثيراً، وجعلتني ألجأ إلى المعاجم المختلفة، ولا سيما القديمة والمتخصصة.
هذا بالإضافة إلى الاستفادة من بعض المصادر الإنجليزية والعربية التي ورد ذكر بعض منها في الحواشي الواردة في الترجمة العربية.
وفي الختام أشكر الله عز وجل الذي وفقني إلى ترجمة هذا الكتاب القيم، كما أشكر سعادة الدكتور/ فهد بن عبد الله السماري، أمين عام دارة الملك عبد العزيز، الذي شجع على ترجمة الكتاب، ووفر لي بعض المصادر المهمة التي ساعدتني أثناء الترجمة، وقام بمراجعته ومتابعة إنجازه..كما أشكر الدكتور سمير عبد الحميد إبراهيم، الأستاذ بجامعة الأمام محمد بن سعود الإسلامية، الذي قام بتحرير النص العربي المترجم، وشرح بعض ما استعصى علي فهمه من نقاط وردت في النص الأصلي، وعبارات عربية كتبها المؤلف بطريقة غير واضحة بحروف ( الكاتاكانا) اليابانية، وأشكر أيضاً الدكتور حمد بن ناصر الدخيل، الذي قام بمراجعة الترجمة من الناحية اللغوية والشكر موصول إلى الأستاذ/ أمين توكوماس أحد مديري جمعية مسلمي اليابان في طوكيو على مساعدته إياي في الحصول على نسخة من الكتاب بعد أن نفذت نسخه، وأصبحت في حكم النادر.



والله الموفق،،،



الرياض 1416هـ


سارة تاكاهاشي






اليوم الأول
عبر الجزيرة العربية



جدة وقبر حواء










وصلنا نحن الأربعة: السيد يوكوياما، والسيد ميتسوتشي، ومساعد السيد يوكوياما، وكاتب هذه السطور (ناكانو) إلى مدينة جدة، صباح يوم 26 مارس 1939م، كانت الحرارة 32.3 درجة مئوية، وعند نقطة تقع على بعد ميل من الشاطئ كان علينا أن ننتقل إلى "يخت " صغير تاركين السفينة التي أقلتنا إلى الميناء، نظرا لوجود شعب مرجانية كثيرة تكونت في البحر الأحمر منذ القدم، ودفعني الفضول إلى أن أسأل الرجل الذي كان يقود "اليخت "الصغير عن سبب ترك هذه الشعب المرجانية في البحر هكذا، سألته: لماذا لا تنظفون المنطقة، وتقيمون ميناء طيبا هنا يخلو من المخاطر التي قد تتعرض لها السفن؟ فأجاب قائلا: "إنها الرغبة في الحفاظ على البلاد من خطر السفن المعادية التي لا يمكنها أن تمر من فوق هذه الشعب المرجانية؛ لأن العمق لا يتجاوز المتر وربع المتر تقريبا.. ".
واقتربنا من مبنى الجمرك، وكان " اليخت " الذي نركبه يديره رجل عربي يرتدي "العقال " و "الغترة"، وكان هناك بعض الأمتعة القليلة ومساعد واحد، ونادرا ما كان الرجلان يتبادلان الحديث معا، ولم نكن نشعر بأية ضوضاء بل هدوء، وهدوء، وتعجبت: أهذه هي الشخصية العربية البدوية!
استقبلنا قائمقام مدينة جدة، ورئيس الشرطة، ومدير شركة مصر (للملاحة)، واستعرضنا حرس الشرف ورحب بنا الجنود، ولأنني عشت في مصر حوالي سبع سنوات فقد كان انطباعي الأول عن مدينة جدة طيبا. كانت المدينة هادئة بعد انتهاء موسم الحج، وفيها شاهدنا مكتب الجمارك، ومقر فرع وزارة المالية، ووزارة الخارجية، وتقع كلها وسط المدينة. كما شاهدنا مكتب البريد والسوق. ولفتت انتباهنا البيوت العالية التي شيدث من الحجارة والخشب، واصطفت على جنبات الطريق الذي كنا نمر به.
رأينا في مكتب الجمارك ما يقرب من خمسين آو ستين موظفا وعاملا، يحملون الملابس والبضائع والحاجات اليومية وما شابه ذلك، إلى منطقة نجد، وكان الفندق الذي أقمنا فيه - ويسمى فندق مصر- رائعا وممتازا.
شعرنا بارتفاع نسبة الرطوبة في الجو، وسمعنا أن أمراضا عديدة مثل الملاريا والدوسنتاريا، والكوليرا قد تفشت في موسم الحج، وقد خضعنا قبل ذلك لفحص دقيق جدا، لإثبات خلونا من هذه الأمراض، وذلك في الحجر الصحي في جبل الطور في شبه جزيرة سيناء.






وعدد السكان في جدة 35 ألف نسمة، بمن فيها من أجانب، ويقال: إن عدد الأجانب فيها ستون أوربيا وأمريكيا، وخمس أو ست من النساء، بينما يكثر وجود الأجانب المسلمين من الشام وتركيا وتتاريا. وجدة هي المكان الوحيد في هذه المنطقة الذي يسمح فيه بوجود الأجانب.
وقيل لنا: إن قبر "حواء" يقع هنا بالقرب من منزل فيلبي، لكن لم نعثر له على أثر يذكر، وشعرنا أن المكان قد تعرض لتقلبات الزمان، وتغير فيه كل شيء وسط هذه المنطقة الصحراوية، وكان من الصعب الاعتقاد بأن هذه المنطقة كانت من أكثر مناطق العالم تقدما وازدحاما بالسكان في العصر الجليدي الرابع.
اليوم السابع والعشرون من مارس
الساعة الثالثة عصرا
انطلقنا متجهين إلى الرياض؛ وبرعاية كريمة من جلالة الملك عبد العزيز آل سعود وضع تحت تصرفنا سيارتي ركوب، سيارة لنا، وأخرى للمرشد ورئيس الحرس، كما زودنا أيضا بسيارتين: سيارة نقل واحدة لحمل الخيام والطعام، وأخرى بها ثلاثون من الرجال، وأهدانا الشيخ عبد الله السليمان وزير المالية بعض الملابس العربية: أعطانا غترة ومشلحا وعقالا، وقمنا بالتقاط صورة جماعية بعد أن ارتديناها. لقد أخبرنا بأن نرتدي هذه الملابس العربية، دون إبداء السبب، لكنني أعتقد أنهم لم يرغبوا في أن يشاهد الأهالي الملك يستقبل ضيوفا يرتدون ملابس على الطراز الغربي. غير أنني كنت في غاية السعادة، وأنا أرتدي الغترة والمشلح والعقال، وأصبحنا نبدو أقرب للعرب مما إلى الأوروبيين. كانت أشجار النخيل تنتشر في كل مكان على جانب الطريق، لكننا لم نشاهد زهورا على الإطلاق.
الساعة الخامسة مساء


وصلنا إلى استراحة صغيرة في "بحرة"، كان هناك حوالي 15 أو 16 بيتا، ومخفر صغير ومبنى عام، توقفنا لأخذ قسط من الراحة، واحتسينا الشاي بالنعناع في أكواب من الزجاج، ثم شربنا القهوة أيضا، وكانت هناك " الشيشة"، وعلى حائط الاستراحة كتبت عبارات مثل "لا إله إلا الله " بخط الثلث الجميل، وأعتقد أن كاتبها خطاط محترف.
لم نشعر بوجود التأثير الوهابي الذي سمعنا عنه هنا. والمسافة من جدة إلى بحرة حوالي 30 كيلا، وقد شاهدنا العلم السعودي على أسطح المنازل، ورغم أننا رأيناه في جدة إلا أننا حين شاهدناه في هذا المكان من الصحراء شعرنا بأننا داخل البلاد العربية، رغم أننا لم نشعر بالعالم من حولنا، ولم نشعر بملامح حضارية هنا، إلا من خلال الأكواب المصنوعة في اليابان التي شربنا فيها الشاي والقهوة، ومن خلال أسلاك الكهرباء الممتدة من جدة إلى هذا المكان.
وفي بحرة زودنا السيارات بالوقود، إذ ينبغي لنا أن ننطلق إلى منطقة الوادي، والوصول إلى هناك يتطلب السير إلى الناحية الغربية، غير أن هذا كان طريق الحج الذي لا يمكن أن يمضي فيه إلا المسلم، ومن هنا كان علينا أن نأخذ الطريق من الناحية الشمالية، وهو ليس بطريق بمعنى الكلمة، بل هو ممر ضيق، وعلى الرغم من أننا ضيوف جلالة الملك فإنه لم يكن مسموحا لنا بالسير في هذا الطريق الذي يسلكه الحجاج إلى مكة، وقد سمعت أن اثنين من عائلة أثلون الملكية البريطانية حضرا إلى هذا المكان قبل عامين، ولم يسمح لهما بعبور طريق الحج المؤدي إلى مكة، ولو حتى بطريقة سرية، مما جعلهما يسيران على الممر الضيق نفسه الذي سلكناه نحن أيضا؛ لأن حكم الشريعة الإسلامية واضح، وقوانينها صارمة لا تفرق بين الناس، مهما كانت منزلتهم.


غرز في الرمال



نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة



وصلنا إلى طريق ضيق تحفه أشجار السنط البرية المزهرة (الطلح)، ولم نكد نمضي على هذا الطريق حتى اختلفت الطرق التي كانت السيارات تتبعها في سيرها. لم تعد السيارات تمضي معا، وبينها المسافة المعهودة، كان ذلك بسبب الرمال والأحجار الصغيرة، كانت هناك هضاب ومرتفعات بعضها مغطى بالجرانيت، وبعضها ذو أشكال عجيبة، بينما يميل لونها للون البني القاتم. استمرت سيارتنا تمضي بسرعة عشرين كيلا في الساعة.
عم الظلام، ولم تكن للبوصلة أية فائدة هنا، لكننا كنا نتجه ناحية الشرق، وفي حلكة الليل الشديدة كانت سيارتنا فقط هي المزودة بالأضواء الأمامية، وهي الأضواء الوحيدة التي يمكن مشاهدتها من حولنا، بينما كان الغبار يرتفع من حولنا أيضا، وعلى الرغم من أننا أغلقنا كل النوافذ، فإن الرمال كانت تنفذ إلينا داخل السيارة، وانخفضت درجة الحرارة- ربما تدنت إلى 12 أو 13 درجة مئوية- لكن الجو على كل حال كان معتدلا، يميل إلى البرودة المريحة المنشطة.
وفجأة اهتزت سيارتنا، وغاصت عجلاتها في الرمال، كان سائقنا ذا خبرة، وتبدو خبرته أكثر في مثل هذه الحوادث التي تقع عادة في الطريق الصحراوي (كان سائقا لسيارة الملك)، حاول عدة مرات أن يفلت من الرمال، لكن الأمر أصبح أكثر سوءا.
انتظرنا السيارات تأتي من ورائنا، ولكنها لم تصل كما توقعنا، فأوقفنا محرك سيارتنا وقنعنا بالانتظار، وساد الصمت الذي لم يكن يقطعه سوى صوت بعض الحشرات، وبعد فترة قدمت إحدى السيارات، كان فيها المرشد ورئيس الحرس وبعض المساعدين، فترجلوا من سيارتهم، وحاولوا مساعدة سيارتنا، واخراجها من الرمال، وأخبرونا بأن الناقلتين قد تعرضتا للمصير نفسه. خرجنا جميعا من السيارة، ثم رفعناها من الرمال، وأخذ رئيس الحرس يشكرنا، ويمتدح ما قمنا به من عمل، ويثني على تعاوننا هذا !
وطبقا لما قاله لنا رئيس الحرس، فقد كان يحرس الملك ويلازمه طوال الوقت، أما الآن فهو الحارس الخاص لعبد الله السليمان وزير المالية، كان الرجل مهذبا مؤدبا معنا إلى أقصى درجة، وكان وزير المالية قد عينه لحراستنا بصفة خاصة، ونشاهده دائما يحمل بندقية طويلة على كتفه ويتمنطق بخنجر، ويبدو لنا رجلا شجاعا لا يهاب أحدا.
بعد عشرين دقيقة تمكنت عربتنا من الخروج من الرمال، وتابعنا المسير من جديد، وحاولنا أن نسير بسياراتنا في طرق متقاربة حتى لا يتعرض أحد منا للضياع أو للعطل، كان الطريق معوجا يرتفع وينخفض، وأصابنا جميعا التعب والإرهاق.
أخبرنا سائقنا أنه سبق له قيادة السـيارة بين جدة والرياض مرات عديدة، لكنه كان دائما يسلك الطريق المسمى "السكة السلطانية" والطريق الذي سلكناه نحن يسمى "السكة الذهبية"، وكانت القوافل قديما تستخدم هذا الطريق، ويبدو طريق "السكة السلطانية" أفضل كثيرا، وأكثر أمنا وأمانا.
وتساءل السائق: لماذا كان علينا أن نسلك الطريق الأصعب ؟ لم يكن يعرف أن غير المسلمين لا يمكنهم المضي في الطريق الآخر، أي طريق "السكة السلطانية" الذي يؤدي إلى "مكة"، وذكر السائق أنه كثيرا ما كان يسوق سيارة الملك عبد العزيز بن سعود، وكانت إذ ا "غرزت " السيارة بهم في الرمال، هب الملك لمساعدته في رفع عجلات السيارة من الرمال، وقال: إن الناس اعتادوا على مناداة الملك بالحاج عبد العزيز، دون ذكر لقبه الملكي. واستمر الحديث على هذا المنوال بينما كانت السيارة تغوص في الرمال مرة بعد مرة، ولم يكن المرافقون والحراس يبدون تذمرا من هذا الأمر أو يتململون. حقا إنها طبيعة الصحراء الصعبة، التي لا يمكن للإنسان أن يتدخل فيها أو يغيرها، ولهذا فلا ينبغي أن يشكو الإنسان قسوة هذه الطبيعة، وهؤلاء العرب الذين معنا عرب أقحاح أصلاء، عاشوا هنا منذ مئات السنين بل آلافها، أجسادهم مغطاة بالرمال والعرق، وجلودهم صارت كلون أشجار الصنوبر.
هكذا سنحت لنا الفرصة لنشاهد الأجساد العربية الأصيلة، وكنا كلما سرنا ثلاثة أو أربعة أمتار نزلنا لنحرك العجلات التي غاصت في الرمال، وتعبنا جميعا، وأخذ منا التعب مأخذه، ولكننا كنا أقوياء؛ ولذلك تحملنا المشقة نفسها التي تحملها رفاقنا العرب، إلا أن برودة الهواء في الليل جعلتنا نصاب بالسعال والزكام.
حفل الشاي العربي
بعد مضي فترة من الزمن، وعلى بعد حوالي ستين كيلا تقريبا من مدينة جدة- كان عداد السرعة بالسيارة معطلا- وصلنا إلى قرية صغيرة يقال لها (الجعرانة)، فاستقبلنا أميرها وأشعل النار، وأعد لنا الشاي، وحين تحلقنا حول النار كان هناك حوالي خمسة عشر أو ستة عشر رجلا عربيا من كبار القرية يجلسون معنا، وقد رحبوا بنا ترحيبا عربيا حارا، وحيانا الأمير بلهجة حجازية، فقام عبد السلام- رئيس الحرس- يشرح ما قاله الأمير بلغة عربية فصحى، عرفنا أنه أمير القرية، وأن الملك عينه مباشرة أميرا عليها.
وحول النار دارت فناجين القهوة العربية والشاي المعد على الطريقة العربية، كانت هذه أول مرة ننال فيها هذا الشرف، ونجلس مع مثل هؤلاء الناس، منذ وصولنا إلى المملكة العربية السعودية.
كانت القهوة مرة جد ا، ولكن كانت أفواهنا مليئة بالرمال والأتربة، ولذلك بد ا هذا الطعم المر للقهوة العربية لذيذا جدا، لقد شربتا القهوة العربية في سفارة المملكة العربية السعودية في القاهرة، وفي بغداد، ولكن لم تكن مثل هذه القهوة التي أشربها الآن. لقد شعرت أن هذه هي القهوة العربية الحقيقية بلا منازع.
كان الذين يقدمون القهوة يدورون حولنا مرة بعد الأخرى، وعرفنا أننا لو حركنا الفنجان في يدنا مرتين أو ثلاثا فهذا يعني أننا لا نرغب في شرب المزيد من القهوة. بعد ذلك تحدثنا مع الأمير وبقية كبار القرية مدة نصف ساعة أو أكثر قليلا، في بداية الحديث قال الأمير: إنه مسرور بلقاء وفد ياباني هنا لأول مرة! وجرى الحديث في موضوعات كثيرة، فذكر الأمير أنه خلال حكم الحسين بن علي لهذه المنطقة كان العديد من البدو قطاع الطرق يهاجمون الناس المتوجهين للحج، ويغيرون على قوافل التجارة، وكانت المنطقة في خطر نتيجة تهديد هؤلاء البدو الذين لم تكن عساكر الحسين بقادرة على مواجهتهم والقضاء عليهم، ولكن بعد قدوم الملك عبد العزيز آل سعود استتب الأمن، وتمكن من السيطرة على المنطقة جيدا. وهكذا أصبح الطريق أكثر أمنا، والناس الذين يأتون للحج لم يعودوا يخافون شيئا.
وأثنى الجالسون على الملك عبد العزيز آل سعود، وأثنوا أيضا على نظام الإخوان الذي أسسه الملك عبد العزيز، وذكروا لنا مرة بعد مرة مقدار ما يكنونه له من حبا وتقدير. بجوار النار توجد بئر، وهي منحة من الملك لأهل القرية حفرها لهم، والملك نفسه حين يذهب إلى مكة ينزل في هذا المكان ويشرب من ماء البئر، هذه عادة يتبعها الملك دائما.
وذكر أحدهم أن هذا المكان له أهمية تاريخية، لأن النبي محمدا صلى الله عليه وسلم حين هاجر إلى المدينة، وأراد أن يؤدي فريضة الحج أول مرة ضرب خيامه في هذا المكان، وأصبح يطلق عليه "ميقات الإحرام ".
كل هذا كان يشرحه لنا عبد السلام الذي تولى الترجمة أو الشرح بالعربية الفصحى، وهو مصري تخرج في جامعة الأزهر، ثم ارتحل إلى مكة واستقر بها، وهو يدير فندق مكة، ويثق فيه الملك كثيرا، وهو رجل ذكي جدا ومهذب، ويعمل أيضا مراسلا صحفيا للصحف المصرية،وكان يعرف جيداً كيف يتعامل مع أمثالنا.
قبل العاشرة بدأنا المسير، وكنا قدرنا الارتفاع عن سطح البحر، فكان. 300 متر، كان الطريق وعرا، وواجهنا مرة أخرى مشكلة الرمال، وتوقفنا ونزلنا من السيارة، واضطررنا لرفع السيارة مرة بعد مرة، فشعرنا بالتعب، لكن مرافقينا العرب لم يشعروا بما شعرنا به، ولا أزال أتذكر كلمات (تغريز)، (غراز)، (غرزت) وهي ترن في أذني حتى الآن.
وبعد حوالي ثلاثين كيلا التقينا بقافلة صغيرة تتكون من عشرين أو ثلاثين جملا تحمل البضائع والحاجات اليومية في أجولة من الجوت والصناديق الضخمة. وكان أحد الجمال يتقدم القافلة كأنه قائدها، وكأن الإنسان الجالس على ظهره ليس سوى زينة فقط، وتذكرت كلمات الرحالة " داوتي " عن الصحراء العربية:
" في الصحراء الإنسان تابع للجمل ".
الساعة العاشرة والنصف



مرت سيارتنا بواحة بها بيوت قليلة، أخذنا الماء وتحركنا ثانية، وكلا على ارتفاع 430 مترا عن سطح البحر، والهواء صار أكثر برودة.
شعرنا فجأة بالبرودة الشديدة، ومررنا بجانب مجرى مائي يمضي بين الصخور، ووصلنا إلى قرية تسمى (الزيمة) يبلغ سكانها 2000 أو 3000 نسمة، وفي هذا المكان تستقر قبيلة كانت تسلب وتنهب وتقطع الطريق، ويذكر أن البريطاني (داوتي) وصل إلى هذه المنطقة واستراح عند "عين الزيمة"، ويقال: إنه تعرض لهجوم هؤلاء الناس، لأنهم اكتشفوا أنه نصراني، ولهذا تملكنا الخوف ونحن نمر بهذه المنطقة، ليس معنا نقود، وكنا نرتدي على رؤوسنا الزي العربي، وأشعر الآن مقدار ما قاساه "داوتي " في هذه المنطقة من متاعب وقد استفاد " لورنس " الكثير من مذكرات "داوتي ".
لم نتمكن من البقاء هنا مدة أطول، إذ كان علينا أن نصل إلى محطتنا التالية " السيل ".
وفي منتصف الليل شعر سائقنا بالدوار فجأة؛ لأن الطريق أمامه كان يعلو ثم يهبط، ويتلوى أمامه كالثعبان، ولهذا قام السيد يوكوياما بقيادة السيارة، كان الأمر في غاية الصعوبة وكانت السيارة تمضي بسرعة ثلاثين كيلا في الساعة، والارتفاع عن سطح البحر وصل إلى أكثر من خمسمائة متر، شعرنا جميعا بالحاجة إلى النوم، لكن كان علينا أن نمضي كما لو أن الطريق يقودنا رغما عنا إلى الجحيم. ظلمة حالكة، وطرق وعرة ملتوية. وبعد فترة وجدنا الطريق الرئيس المؤدي إلى مكة، فأصبحنا على بعد 150 كيلا من جدة.
أولمبيا العرب. بقايا عكاظ.. السيل
الساعة الواحدة صباحا
وصلنا إلى السيل، وقد استغرق ذلك وقتا طويلا، فقد غادرنا جدة في الساعة الثالثة مساءً،
شاهدنا ناراً وحين قربنا منها وجدنا عددا قليلا من البيوت الصغيرة.
فنزلنا من السيارة، وشعرنا بالبرد الشديد، فقد كانت درجة الحرارة منخفضة جدا، وبدأ الرجال الثلاثون المرافقون لنا ينصبون الخيام، ويعدون الطعام، وبعد نصف ساعة كان الطعام معداً. وجاء عبد السلام وشرح لنا أن الخيمة الأولى ستكون من نصيب الوزير الياباني، والثانية لنا، وخيمة لتناول الطعام، وأخرى تستخدم دورة مياه.
في الخيمة المعدة لتناول الطعام وضعوا منضدة وكراسي وأطباقا، وفرشوا على المنضدة مفرشاً أبيض، لقد اهتموا فعلاً بنا اهتماما كبيرا، وحرصت الحكومة السعودية على توفير الراحة لنا، فقد جهزت الخيام المعدة للنوم بالأسرة التي كانت من النوع البسيط، الذي يستخدم في المعسكرات، إلا أنها زودت بالألحفة والمفارش، وفرشوا أرض الخيمة بسجادة يبدو أنها مصنوعة في مصر، وكان اتساع الخيمة أكثر من خمسة أمتار مربعة، وهي منسوجة من القماش السميك، ومن العجيب أن نجد عليها شريطا كتب عليه مصنوع في اليابان أوساكا made in Japan osaka كان من غير المتوقع أن نرى شيئا مصنوعا في اليابان هنا في هذه الصحراء، كنا جوعى جداً وكان الطباخ السوداني قد أعد لنا حساء طماطم من العلب الجاهزة، كما أعد لنا خبزاً عربياً ودجاجاً مشوياً وكبابا، وأرزا محمرا باللحم، ومهلبية، بالإضافة إلى البرتقال والتفاح، فكان الطعام بالنسبة لنا مليئا بالسمن، لكن بعد هذه الرحلة الطويلة كان هذا الطعام من ألذ ما أكلته في حياتي. وفي أثناء تناولنا الطعام كان مرافقونا العرب يؤدون الصلاة جماعة.
بعد تناول الطعام خرجنا من الخيمة، وأخذنا نشاهد المنظر من حولنا، كان الجو باردا جدا، وكانت البوصلة تشير إلى ناحية الشمال بدرجة قدرها 21.5 شمالا، وكنا نشاهد نجوم الشمال واضحة، وقبل النوم تناولنا"أسبرين " للتخفيف مما لحق بنا من تعب وإرهاق، وأعطينا " شاكر" السائق بعض الأسبرين، لأنه مرض في الطريق وأصيب بالدوار.. وكذلك أعطينا عبد السلام، ونام رئيس الحرس في خيمة الطعام، ونام المرافقون خارج الخيام، وقبل النوم مباشرة قمنا بجولة قصيرة حول الخيام، ثم دخلت الخيمة، وكتبت بعض المذكرات، ثم أويت إلى فراشي، ورحت في نوم عميق.


اليوم الثاني


الثامن والعشرون من مارس



المعلقات السبع





في أول ليلة قضيناها في الجزيرة العربية نمنا نوما عميقا داخل الخيمة، لم أشاهد أية أحلام في منامي، استيقظت الساعة السادسة صباحا، وكان الجو باردا، إذ كنا على ارتفاع 1550 مترا فوق سطح البحر، لم تكن هناك رطوبة على الإطلاق خارج الخيمة، يمكن أن أرى قرية صغيرة هناك عبر الوادي. ذلك موضع سوق عكاظ قبل الإسلام، الذي يقام كل عام، فيجتمع فيه العرب ينشدون الأشعار ويتفاخرون، بينما الفتيات العربيات يخطرن هنا وهناك، بعيونهن الواسعات وأجسادهن ذوات اللون القمحي الداكن.


وهكذا وجدت المعلقات، ووجد شعراء كبار من أمثال: امرئ القيس، وزهير بن أبي سلمى، والنابغة الذبياني، وعمرو بن كلثوم وغيرهم، كان شعرهم يركز على المرأة، والخمر، والصحراء، والجمل والفرس. لقد تعلمت هذا مرة في كلية الآداب بجامعة القاهرة، حين درست على يدي الأستاذ الدكتور طه حسين- ذلك الأديب الضرير المشهور- الأدب الجاهلي، والحياة في البادية، وحياة العربي في الجاهلية، وتأثرت كثيرا بهذا الشعر الجاهلي الرائع، والآن أرى كل شيء أمام عيني، بقايا خلفية هذا الشعر الذي نظمه أولئك الشعراء، الذين قدموا من أواسط نجد، ومن بلاد طيء شمال نجد، ومن البحرين، إلى هذه المنطقة التي أشاهدها أمامي، كانت الرحلة خطرة بالنسبة لهم، لكن رغبتهم في أن تكون أشعارهم معلقة على جدار الكعبة كانت هي الدافع وراء هذه المعاناة، للوصول إلى هذا المكان، وكانت العاطفة القوية هي أساس حياتهم البدوية في تلك الفترة، لقد تعجبت كثيرا، ففي هذا الشعر يمكنهم أن يعبروا عن أحاسيسهم بتعبيرات متنوعة ومتفرقة، مستخدمين كلمات ومفردات تحمل معاني مختلفة، وظلالا متباينة، يقولون ذلك في حرية مطلقة، ومما يؤسف له أن أدباء أوربا ينتقدون هذه الأشعار، وأعتقد أن السبب هو عدم فهمهم لمعاني كلمات الشعر العربي.
وتجدر الإشارة إلى أهمية هذه المعلقات لمعرفة الإسلام والمسلمين في تخليص حياة العرب مما علق بها من شوائب وأخطاء، لأن هذه الفترة هي الفترة التي تمخض عنها الإسلام، أي الفترة السابقة للإسلام، لهذا فهي توفر معلومات مهمة عن فترة ما قبل الإسلام.
استخدم الوزير الياباني يوكوياما، والمهندس ميتسوتشي دورة مياه الخيمة التي كانت عبارة عن حفرة وسط الرمال فقط، وكنا شاكرين فضل مرافقينا لأنهم جعلوا دورة المياه مغطاة.


الساعة السابعة صباحا


ارتفعت الشمس عالية، وارتفعت درجة الحرارة في زمن وجيز، وانشغل رفاقنا العرب بإعداد طعام الإفطار، وفي أثناء ذلك اقترب منا خمسة أو ستة أطفال من العرب، تتراوح أعمارهم ما بين السابعة والثامنة، كانوا جميعا يلبسون ملابس صنعت من جلود الأغنام وفروها، وبدا من مظهر شعورهم أنهم لم يحلقوا رؤوسهم أبدا. أكبرهم فتاة في التاسعة أو العاشرة، بدت مغطاة تماما، وهربت، كان الأطفال حذرين وخائفين منا، ولكن بعد أن أعطيناهم بعض "البسكويت " اختفى الخوف من وجوههم؟ فاقتربوا منا، وبدءوا يتحدثون معنا، فسألتهم عن إخوتهم وآبائهم، فأجابوا عن أسئلتي بلغة عربية فصحى! لم يتح لهم شيء من التعليم، فكانوا لا يعرفون القراءة ولا الكتابة، وبدت بيوت القرية مبنية من الطين وصخور الجرانيت، وتقدر بحوالي مائة بيت، يعيش فيها 300 نسمة، هكذا قال عبد السلام، ويقع هذا المكان على بعد 190 كيلا من جدة، و40 كيلا من مكة.
وفي المنطقة جبل اعتاد الناس أن يستريحوا عنده، أثناء ذهابهم للحج، قبل وصولهم إلى مكة، لاعتدال جوه ونظافته، وقد قدم إلى هنا مفتي فلسطين الحاج أمين الحسينى، وكان قائد الحركة في فلسطين، وقد بذل وساطة بين اليمن والمملكة العربية السعودية، ويقال: إن الملك عبد العزيز آل سعود يحب هذه المنطقة كثيرا.


الساعة السابعة والنصف


بدأنا في تناول طعام الإفطار المكون من: الشاي، والحليب، والبيض المقلي، وبعض الحلوى، والبرتقال، كان الحليب حليب الماعز، وكان البرتقال لذيذا جدا، فأكلت منه كثيرا، وبعد أن فرغنا من الطعام قوض مرافقونا العرب الخيام، وبعد عشر دقائق ركبوا الناقلة، وبدأنا نتحرك.


الساعة الثامنة وخمس وأربعون دقيقة


تركنا المكان، وبعد عشر دقائق وصلنا إلى واد يقع بين جبلين، وبعد نصف ساعة مضينا في طريق ضيق جدا، يسمح بمرور عربة واحدة فقط، وإذا سقط المطر، تحول هذا الممر إلى مجرى مائي، ولهذا كان على السائق أن يقود السيارة بعناية فائقة واحتياط شديد، وعلى كل حال فقد تناول بعض حبات من " الأسبرين " ليلة أمس، لذلك كان يشعر بالراحة، وسرنا بسرعة 20 كيلا في الساعة، وبعد مضي ساعة وصلنا إلى نقطة مفرق بين الحجاز ونجد، كان الارتفاع هنا 1100 متر فوق سطح البحر، وهذه هي أعلى نقطة مرتفعة في هذه المنطقة.
اجتزنا المنطقة الجبلية، وبدأنا نمضي وسط منطقة منبسطة مليئة بأشجار الطلح وأشجار السلم، كان الطريق سهلا، لكنه ملتف بالأشجار التي اعترضت طريقنا، مما اضطرنا إلى النزول من السيارات لإزالتها من أمامنا.


بئر عشيرة
الساعة العاشرة وعشر دقائق


وصلنا إلى مكان يدعى "عشيرة" فلم نشاهد شيئا من البيوت أو الخيام، بل كل ما شاهدناه كان بئرا وسط الرمال، ورأينا حولها أربعين جملا وخروفا، وخمسة عشر راعيا يحملون قرب الماء المصنوعة من جلود الغنم وكان الجو معتدلا؛ فدرجة الحرارة لا تتعدى 30 درجة مئوية. كان هؤلاء الرعاة منهمكين تماما في استخراج الماء من البئر، وسقي إبلهم وأغنامهم، وحمل الماء إلى حيث يذهبون بأنعامهم في عمق الصحراء، كانت البئر محاطة بالمياه المتساقطة، وبمخلفات الحيوانات التي انبعثت منها رائحة كريهة، وبجانب البئر شاهدت لوحة كتب عليها:
" بسم الله الرحمن الرحيم، هذا البئر حفرها عبد العزيز بن عبدالرحمن آل فيصل 1353 هـ (1934م) ملك المملكة العربية السعودية"
وأعتقد أن هذا كان تعاطفا من جانب الملك مع البدو، ورغم أنه حفر بئرا واحدة، فإنها مفيدة جدا، ولها منفعة كبرى للبدو في هذه المنطقة، والبئر ليست عميقة، ونسبة ملوحة الماء فيها مرتفعة، ورغم أن اللوحة المكتوبة تشير إلى أن الملك حفر البئر فإن "داوتي " ذكر هذه البئر أيضا.
أخذنا نشاهد الأحجار في هذه المنطقة، وهي أحجار سوداء يطلقون عليها (حرة) أو (حرار) ويقال: إن الجزيرة العربية منذ قديم الأزمان- حين انفصلت عن كتلة أفريقيا- كانت درجة حرارة هذه الأحجار فيها قد وصلت إلى 1500 درجة مئوية، لهذا ماتت جميع المخلوقات، وبقيت هذه الأحجار شاهدة على هذا الحدث.


طريق معبد لم تصنعه يد البشر
الساعة الحادية عشرة


وصلنا إلى أرض منبسطة واسعة، سطحها مغطى بأحجار شديدة الصلابة، وبدا الطريق الذي نسير عليه مثل طريق قد تم رصفه وتعبيده في بلد من البلاد المتقدمة، وهنا سارت السيارة بسرعة تجاوزت مائة كيل في الساعة، فكانت هذه أول مرة نقود السيارة بهذه السرعة العالية. سافرت مرة إلى الصحراء أثناء وجودي بمصر، شعرت هناك بعظمة الطبيعة، لكن شعوري هنا مختلف، فأنا أشهد بأن الطبيعة هنا قد جاوزت حدود الوصف، شعرت بالعظمة الإلهية، فلا شيء ولا أحد غيرنا هنا. كان علينا أن نخفف السير أحيانا بسبب الطلح التي تعترض الطريق، لكننا كنا بعد دقائق نعود إلى السرعة التي مضينا عليها في الطريق المعبد، الذي لم تصنعه يد البشر.
قرأت مرة قصصا عربية وحكايات، وكنت أفكر في "الجن " الذين ورد ذكرهم في (القرآن الكريم)، والآن أجد نفسي في مثل هذه الظروف، وفي مثل هذا الجو الذي يجعل أحد الجن يظهر أمامي بسهولة، لهذا أعتقد أن العرب القدامى الذين تحدثوا عن الجن لم يتحدثوا عنهم من فراغ، ولا من وحي خيال، بل تحدثوا عنهم من خلال معايشتهم لمثل هذه الطبيعة الصعبة التي تضمني الآن، لقد أوجدوا الجن في حياتهم، ولابد أنهم شاهدوهم حقيقة، فلم تكن هناك سيارات، ولم تكن هناك مبان ولا بيوت، لم يكن شيء سوى أشجار هنا وهناك، ولابد أنهما كانوا يشاهدون أشكالا غريبة من الصخور، يحولها ضوء الشمس الشديد أمامهم إلى أشكال أقرب إلى الجن منها إلى أي شيء آخر.
ولقد وجدنا الآن مخلوقات صغيرة من حولنا.. لم نجد ناقة ولا بعيرا ولا إنسانا، بل وجدنا طيورا لها ريش رمادي، ونسورا بها خطوط بيضاء على أجنحتها، شاهدنا طيورا خضراء جميلة، لكن أهم ما لفت نظري هو"الضب "، لونه بني يميل إلى الصفرة، كلون الرمال، رجلاه طويلتان أطول من رجلي الضب الذي عرفناه، والذيل قصير أقصر من جسده، يبحث في النهار عن الطعام فيخرج من جحره، وفي الليل يأوي إليه، وحركاته سريعة جدا، يقول العرب:
إن ذيل الضب لذيذ جدا، ويجعل العمود الفقري للإنسان الذي يأكله قويا وصلبا. وقوة العمود الفقري وصلابته يفخر بهما العرب كثيرا؛ لأنهم إذا سافروا بالجمل، فإنهم في حاجة إلى أن يكون عمودهم الفقري قويا.


محطة خدمة السيارات (المويه)


كانت السيارة تمضي بسرعة 60 كيلا في الساعة، وقد توقفنا للراحة في الطريق، وتناولنا عصير البرتقال.
الساعة الواحدة ظهرا
نزلنا عند "المويه "، وهي عبارة عن محطة خدمة للسيارات، وبقايا قلعة مضى على بنائها نحو 14 أو 15سنة، وكان الملك عبد العزيز يتوقف في هذا المكان للتزود بالوقود.
حين وصلنا إلى هذه المنطقة، وجدنا حوالي ستين شاحنة توقفت للتزود بالوقود، وكان الوقود قد وضع في حاوية ضخمة في ركن من أركان المحطة، ويعد هذا المكان محطة للذاهبين إلى مكة وجدة والمدينة، كما أنه محطة لسيارات البريد، وكذلك سيارات نقل البضائع.
تقرر أن نتناول الطعام في أطلال القلعة، وفي أيام الحج يقيم العسكر في هذا المكان، حيث بقايا سقف قائم على صخور ترفعه دون وجود حوائط، ولكنهم يقولون إنهما سيعيدون بناء هذه القلعة مستقبلا، واخترنا غرفة تبدو مريحة، فرشنا أرضيتها بالسجادة، ووضعنا فوقها الأطباق، وبدأنا في تناول الطعام، كان الطعام مشابها لطعامنا أمس تماما.
ثم غفونا فترة قليلة، ولم يقلقني سوى رائحة الرمال والرطوبة العالية هنا، وفي الجزيرة العربية فإن أي مكان يوجد فيه قليل من الماء فذلك يعني وجود خضرة، وهذا يجعل من المكان استراحة للبدو، وسوقا للقوافل. وقد عانينا كثيرا من الذباب.
وقد تعودت على الذباب في القاهرة، ولكن لم أكن أتوقع أن أجد هذا الذباب وبهذا الشكل في مثل هذه المنطقة.


الساعة الخامسة عصراً


استأنفنا السير في اتجاه الشمال، وبعد فترة وجدنا أنفسنا نمضي في أرض مختلفة، لونها أبيض، وتراءت لنا صخور الجرانيت البيضاء من يمين ويسار، ومضينا بسرعة 50 كيلا في الساعة، وأحيانا بسرعة 70 كيلا في الساعة، كان المهندس ميتسوتشي ينزل أحيانا من السيارة، لأنه يريد أن يفحص الرمال والصخور، ويجمع بعض قطع الأحجار، فهو مهتم بدراسة جيولوجيا المنطقة، وبقياس الارتفاع عن سطح البحر، وكذلك اتجاه البوصلة، كان يستخدم المكبر للرؤية الدقيقة. ويبدو مبهورا جدا بما يرى تحت هذا المكبر (المنظار المكبر)، لم نر الآن أية مخلوقات، وكنا نمضي على وتيرة واحدة، ولم أكن أشعر أبدا بالملل. لا أدري لماذا؟
ربما لأنني أحب الصحراء، وأعشق هذه الطبيعة الخلابة، وأحاول أن أفهم الإسلام، هذا الدين الذي نبت وسط هذه البيئة.
من خلال مظهر الطبيعة في هذا المكان يبدو أنه لا شيء يتغير من حولك، لكن يجب أن نعرف كيف تعيش المخلوقات البسيطة وسط هذه الظروف الصعبة، وكيف تكون قوة الطبيعة هنا. هكذا ولد الإسلام وسط هذه الظروف الصعبة، فنشأ قويا صلبا، أعتقد هذا.


النار فوق الهضبة عند الدفينة




غربت الشمس وساد الظلام، وعند الساعة الثامنة وخمس عشرة دقيقة، شاهدنا نيرانا وسط الظلام، حيث توجد "الدفينة" المكان الذي سنقيم فيه الليلة.
بدأت أشعر بالعزلة هنا أكثر مما كنت عليه أمس، حيث كنا بالسيل، لأن مكان أمس كان يسمح لنا بأن نشم رائحة (البحر الأحمر)، وكنا لا نزال بجوار الحضر والمدنية، ولكن هنا لاشيء، لاشيء على الإطلاق. فنحن في مكان بعيد جدا عن أي مكان يعيش فيه الناس. هدوء يسيطر على كل شيء، هدوء مخيف، هدوء يبعث على الجزع، النار التي شاهدناها أشعلها اثنان أو ثلاثة من البدو، ضربوا خيامهم هناك، اقتربنا منهم، وبدأ العرب المرافقون لنا يقيمون الخيام، ويجهزون الطعام، وتم كل ذلك في سرعة فائقة ومدهشة، في مدة نصف ساعة فقط كان كل شيء معدا تماما، الطعام نفسه كطعام ليلة أمس، البرتقال الذي حملناه معنا ضمر بسبب حرارة الشمس، وفي أثناء تناولنا الطعام كان مرافقونا العرب يؤدون الصلاة. وبينما كنا نسمع صوتهم، وهم يصلون كنا نشعر بالوحدة، وبالخوف، ونشعر بالتعاطف، وبنورانية وشفافية في داخلنا، كنا نشعر بالتناغم والانسحاب، كما لو كانت صلاتهم هذه شيئا رائعا يدخل إلى القلب فيثير فيه مشاعر متنوعة. تجولنا قليلا حول الخيام، وفي الساعة الحادية عشرة تقريبا أوينا إلى الخيام للنوم، كانت درجة الحرارة 13.4 درجة مئوية، بينما كان الارتفاع 860 مترا فوق سطح البحر.
</B></I>







  رد مع اقتباس
قديم 05-11-10, 09:25 AM   #2
عارف الشعيل
 
افتراضي

((اليوم الثالث))
متاهة في الصحراء
التاسع والعشرون من مارس

الساعة السادسة والنصف صباحاً

استيقظت من النوم، كانت درجة الحرارة تسع درجات مئوية، والبئر في هذه المنطقة ليست كالبئر في عشيرة أو الجعرانة، إذ لا يوجد حولها جدار، فهي لا تخرج عن كونها حفرة بسيطة، ولاشيء غير ذلك، والماء المستخرج منها طعمه مالح، وهناك بئر أخرى، لكن لا يوجد فيها ماء، ربما أنها جفت، لا أحد يعرف السبب.

الساعة الثامنة والربع

غادرنا المكان والطريق الذي سارت عليه السيارات صار رخواً، وطبقا لما قاله شاكر السائق:
أمطرت السماء مرتين خلال شهر شعبان ورمضان، وبدت هذه المنطقة بعد هطول الأمطار كأنها بحر واسع، لذا لا تزال بقع الماء تنتشر هنا وهناك، والأمر بالنسبة للسيارات كان صعبا. لأن العجلات كانت تغوص أحيانا في الرمال، نتيجة لليونة التربة، وكان هذا يحدث كل خمس دقائق أو ست، بينما كانت السرعة نحو 30 أو 40 كيلاً في الساعة.

بعد ساعة تقريبا عبرنا هذه المنطقة الصعبة بسلام، ولكن فجأة تحرك السائق تجاهنا، وقال لنا شيئا عجيباً، قال إنه يشعر بأنه لا يمضي في الطريق المعهود، وبالنسبة لنا أيضاً كان الأمر عجيبا، لأننا لم نلاحظ أي أثر لعجلات سيارات، أو أي أثر لأحد يكون قد مضى من هنا، كانت معنا بوصلة، لكنها لم تنفعنا بشيء، وحتى الخريطة الجيدة التي أحضرناها معنا من القاهرة - وطبعت في إنجلترا- لم تكن لها فائدة، فلم نكن نعرف في أي مكان نحن وسط صحراء الجزيرة العربية، لقد ضللنا الطريق بكل تأكيد!!

تحاورنا وتناقشنا مدة خمس دقائق أو أكثر عما يجب أن نفعله: إذا اتجهنا شرقا مرة بعد مرة ربما وصلنا إلى الرياض، أو إلى أية قرية في الطريق إلى الرياض، ويمكن أن نسأل أحداً هناك، وحتى هذا الأمر لم يكن مؤكدا لنا، ولحسن الحظ لم تكن الحرارة مرتفعة، وكان النسيم يهب عليلاً، ولكني أعتقد أن هذا الجو اللطيف لم يستمر إلا يوما واحدا فقط.
وحينما كنا في حوار ومناقشة كان المهندس ميتسوتشي مشغولاً بفحص الرمال والصخور، وكان شاكر السائق يبحث وينظر هنا وهناك، يستطلع الطريق الصحيح، وإذا به يصيح فجأة: يا أخي ! يا أخي! ونظرنا فشاهدنا من بعد رجلين يتجهان نحونا، اعتقدنا أنهما جن من الصحراء، أو أنهما اثنان من قطاع الطرق، فشعرنا بالخوف الشديد.
قدما إلينا، وهما يمشيان الهوينى.. وأدركنا أنهما من رعاة الغنم، فقد كانا يرتديان (المشلح)، وعرفنا من مظهرهما أنهما من الرعاة الأثرياء، لأن الرعاة العاديين يلبسون عادة ملابس صنعت من فرو الغنم، تعاملا معنا بود، وتحدث شاكر معهما بلهجة نجدية، لكنهما لم يتكلما كثيرا، أو ربما كان يتكلمان بلهجة مختلفة، ذكر لنا أن الطريق إلى الرياض من جهة الشمال، وأن الطريق الذي نسلكه الآن يؤدي إلى الجنوب.

سألناهما أين يعيشان؟ فأشارا نحو الجنوب، فرأينا قرابة ثلاثين جملاً، وقال: لديهما المزيد من الجمال، وشكرناهما على مساعدتهما إيانا، وتابعنا رحلتنا ثانية بسرعة 80 أو 90 كيلاً في الساعة، كانت المنطقة سهلة منبسطة يسهل على العربات اجتيازها، فمضينا في الطريق مسرعين.

خيال السحاب الأسود وبحيرة الأحلام

بعد ثلاثين دقيقة أمكننا مشاهدة ثلاث عربات تتحرك، وبعدها بلحظات قليلة رأينا سحابا أسود يبدو في جزء بسيط من الأفق، وحين اقتربنا منه أدركنا أنه ليس بسحاب بل صخرة صغيرة، وما جعلنا نظن أنه كذلك، هي تلك الصخور التي يقال لها "حرة" والتي سبق ذكرها.

الساعة الحادية عشرة والنصف صباحاً

شاهدنا أمامنا بحيرة كبيرة من الماء، ومضينا نحاول الوصول إليها، أو الاقتراب منها، إلا أننا أدركنا أننا نمضي خلف سراب خادع، السراب المعروف في الصحراء، السراب الذي يخدع من يمضي وسط الصحراء، كانت هذه أول مرة بالنسبة لي أخوض هذه التجربة، أي المضي خلف السراب. والأمر الآن يختلف عن ذي قبل، فنحن نسير بالسيارة، تلك الآلة التي صنعتها يد الحضارة، وحين شاهدنا هذا السراب، أمكننا في الحال أن ندرك أن ما نراه ليس بحيرة ماء، بل هو سراب، لأن السيارة بسرعتها تجعلنا ندرك الزمن سريعا، لكن إذا كنا نسافر في الزمن القديم على البعير حاملين قربة ماء وتمراً، ومضينا تحت أشعة الشمس المحرقة؛ ورأينا هذا السراب فهل يا ترى كنا نظن أنه فعلاً سراب؟! ربما كنا سنمضي ونمضي تجاه هذه البحيرة الخيالية بحيرة الأحلام. التي مهما حاول المسافر الوصول إليها فلن يصل أبداً، لأن ما يشاهده ليس إلا السراب، وعندئذ ستنتابه مشاعر الحزن والغم والبؤس. ويمكنني الآن أن أتخيل قسوة الحياة التي عاشها العرب. ونحن الآن في حاجة إلى قوة نفسية، وقوة جسدية، وقوة ذهنية، وسط هذه الصحراء.

الصحراء العربية (عفيف)
الساعة الثانية عشرة إلا ربعاً

بعد تجربة هذا السراب الخادع، وصلنا إلى عفيف، وبسبب هذا الجو الممطر كنا نرى حشائش خضراء منتشرة من حولنا، وشاهدنا في وسط هذه المنطقة خمسة رجال أو ستة من البدو، يسقون عشرين أو ثلاثين رأساً من الغنم، في ذلك المكان الذي يقع على بعد 25 كيلاً من الدفينة، وقد قضى "داوتي" هنا ليلة مع رجال القوافل العربية، وكتب في كتابه (الجزيرة العربية) تفصيل ذلك، والحقيقة أن معلوماته مهمة للتعرف على كيفية حياة العرب في تلك الأيام، ولا أريد أن أنقل هنا كل ما كتب، ولكن سأكتفي بذكر السطور التالية:
"وصلنا عفيف قبل غروب الشمس بساعتين، وكانت هناك بئر محاطة بأحجار بركانية (من صخور الحرار)، تتسابق القوافل في الوصول إلى هذه البئر بأسرع ما يمكن، وحين وصلنا إلى هناك رأينا قافلة تحيط بها، وكان رجالها منهمكين في سحب الماء (بالحبال والمحال)، ولديهم عدد كبير من الجمال تريد أن ترتوي، لهذا كان رجال القافلة مشغولين بعملهم، وحول هذه البئر كانت الأرض صلبة وملساء، يتزحلق الإنسان من فوقها، وحركة رجال القافلة صعبة وخطرة، وفجأة تزحلق أحد الرجال وسقط في البئر، وأسرع إليه رفاقه وأنقذوه، والعرب متعاونون تماما في مثل هذه الظروف، وهم منذ الصغر يعرفون كيف يردون الآبار، وكيف ينزلون إلى البئر، وكيف يتعاملون معها، والرجل الذي أنقذ تحطم عموده الفقري، وقبل أن ترحل القافلة كان قد لقي حتفه، ثم وردت قافلة أخرى بعد مغادرة القافلة الأولى، قضت ما يقرب من ثلاث ساعات لسقي جمالها، والتزود بما يلزمها من ماء.

وقد رأيت آثار وجود الإنسان في هذه المنطقة من خلال بقايا النيران التي تركته قبيلة قديمة اشتهرت بصيد الغزلان، ورأيت بقايا عظام الغزلان، وتعجبت، كيف كان هؤلاء الصيادون يصيدون الغزلان هنا، ومن خلال مناظر الطبيعة في هذا المكان يبدو عدم وجود شيء على الإطلاق.. فكيف كان هذا يحدث، حتى بالنسبة للعرب؟ هذا أمر غريب! ثم جاءت القافلة التالية، وشاهدت الناس يشربون الماء والمريس وذلك قبل ساعتين من غروب الشمس، على أنهم لن يشربوا شيئا بعد ذلك في الطريق، ولن يتناولوا أي شيء خلال سفرهم. أريد أن أجرب هذا، لكنني بطبيعة الحال لن أستطيع!
وفي الصحراء لا يمكن أن تطلب الماء من جماعة أخرى. وذات مرة طلبت الماء من رجل من الحضر، طلبت منه أن يعطيني كوبا من الماء، مع أنني عالجت زوجته حين مرضت، إلا أنها حين رأت وجهي أبعدت قربة الماء، كما لو كان الأمر عجيبا بالنسبة لها، وحاولت مرة بعد مرة أن أطلب الماء، وأخيرا وفي النهاية أعطتني قليلا من الماء. والناس هنا لا يهتمون بالآخرين. هذه هي التقاليد هنا: كل في حال شأنه.
وأقل درجة حرارة هنا هي 72 درجة فهرنهيتية، ودرجة حرارة ماء البئر 79 درجة فهرنهيتية، بينما الارتفاع عن سطح البحر 4600 ياردة.
وعفيف محاطة بهضاب من صخور الحرة، وكثير من أشجار السلم التي شاهدت مثلها في سورية، والجو حار جدا، فرجال القوافل العربية كانوا يشتكون من حرارة الشمس ".
بعد أن أخذنا قسطا من الراحة بدأنا التحرك نحو القاعية، وهي تبعد عن مكاننا الآن بحوالي 80 كيلاً، كان الطريق سهلاً منبسطا، لكن المنظر من حولنا يتغير ويتجدد، ولهذا لم نكن نشعر بالملل.
وفي الطريق رأينا ثلاثة من البدو، فتحدثنا معهم، وقالوا لنا: إن الأمطار هذا العام هطلت بغزارة، وهذا خير كثير، كان معهم كلب، ربما كلب حراسة، وهو كلب صحراوي لونه مثل لون رمال الصحراء، ويبدو سريع الحركة، ينطلق كالسهم، وكان الثلاثة يرتدون المشالح التي تدل على مدى ثرائهم.
وشاهدنا في طريقنا بقايا جمال نفقت في الصحراء، كان أحدها قد نفق حديثا.
إذ كان جسمه لا يزال في مرحلة التحلل، بينما كان جمل آخر قد تحلل تماما، ولم يبق من جسده غير الهيكل العظمي، وحين شاهدناها شعرنا في البداية بالأسى والحزن على هذه الجمال، ولكن- وبعد أن تعودنا رؤية هذا المشهد- لم يعد ينتابنا الشعور السابق تجاهها.

القاعية
الساعة الثانية وعشر دقائق بعد الظهر

وصلنا إلى القاعية، لم يكن لدينا وقت لضرب الخيام، فجلسنا بجانب الشاحنة، وفرشنا السجادة على الأرض، وتناولنا طعام الغداء، كان الطعام كسابقه، لكن أضيف إليه (مانجو) من علب محفوظة، وكانت المانجو لذيذة جداً، ونحن الآن على ارتفاع 850 متراً من سطح البحر، ودرجة الحرارة 28 درجة مئوية، وكنا على بعد مائة متر من البئر، حيث لم نر أي بدوي حولها، وشاهدنا القمح البري، وأشجار "الطلح "، والحنظل، وحشرات منها: نمل كبير الحجم، وقنفذ، وشاهدنا أشجارا ونباتات عديدة متنوعة.
بعد تناول الطعام أردت الذهاب لقضاء الحاجة، ووجدت لهذا الغرض فجوة نصف قطرها حوالي 15 مترا وعمقها 3 أمتار، ولا يبدو أن يد إنسان قد حفرتها، وذكر المهندس ميتسوتشي أنها نتجت عن عوامل التعرية في المنطقة.
غادرنا المكان في الساعة الثالثة والثلث، قاصدين "درب الحج في الوشم " ومضينا في طريقنا، حيث كنا- طبقا للبوصلة التي معنا- في منطقة تقع شمالاً بـ 24.5 درجة، وشرقا بـ 34 درجة، وكنا قد قطعنا مسافة ستمائة كيل من جدة. وانطلقنا في طريقنا بسرعة وصلت أحيانا إلى مائة كيل في الساعة.

هضبة صخرية غريبة

كان المهندس ميتسوتشي يوقف السيارة أحيانا ليجري بعض الأبحاث الجيولوجية على صخور المنطقة، وبدأنا نشاهد أشكالاً غريبة من الصخور والهضاب التي نمر بها، فأحيانا تأخذ هذه الصخور شكل الأهرامات، وأحيانا شكل أبي الهول، وأحيانا تكون مثل الخنافس أو البقر أو النمور، ولهذا لم نشعر بالملل أبدا طوال هذا الطريق، كل هذه التشكيلات تمت بطبيعة الحال بمرور أزمان عديدة، نتيجة لعوامل التعرية المختلفة في الصحراء، فكأن الصحراء أمامنا تحولت إلى متحف للتماثيل الرائعة.
وبعد فترة اختفت الصخور والأعشاب الخضراء، وتحول المنظر من حولنا إلى مشهد لمساحات شاسعة بنية اللون، وبعد ذلك بقليل رأينا عمودين ارتفاعهما متران، وبينهما مسافة أربعين مترا، وحين اقتربنا منهما عرفنا أنهما من صنع الإنسان، وأنهما علامة على الطريق، وكما يقول عبد السلام عن هذين العمودين: هما علامة تدل على حدود الرياض، وعلى أن الطريق الرئيس هنا يؤدي إلى الرياض.
شيد العمودان بالإسمنت الخرساني، ولا توجد عليهما أي كتابة تشير إلى شيء، كما لا يوجد شيء من زخرفة، ولكن في مثل هذه الصحراء حين شاهدنا هذا الشيء الذي صنعه الإنسان، فإنه كان لنا بمثابة متنفس ومدعاة للراحة النفسية.
وبعد عشرة أكيال من هذه النقطة شاهدنا عمودا على شكل مثلث مكتوبا على إحدى جهاته: الرياض، وكتب عليه من الجهة الأخرى: عنيزة وبريدة.
وقد أقيم هذا العمود في عهد الملك عبدالعزيز.



حفل شاي في وادي الدوادمي
الساعة السادسة مساء

في الطريق رأينا جبل (كبشان)، ثم وصلنا إلى الدوادمي، وكانت الشمس قد غربت إلا أن الشفق الأحمر لا يزال ماثلا في الأفق، وبدأت درجة الحرارة تنخفض تدريجياً، وحين نزلنا من السيارة شعرنا بالبرودة، ووصلت الشاحنة التي تقل مرافقينا العرب في أعقابنا، وبدأوا فورا يضربون الخيام، ويعدون الطعام.
قال عبد السلام: كان علينا أن نستريح في مكان يلي هذا المكان بمائة كيل، ولكننا الليلة سنستريح هنا، وغدا في المساء سوف نستريح في الجبيلة التي تقع على بعد خمسين أو ستين كيلاً من الرياض، وصباح بعد الغد سوف نصل إلى الرياض، وقد أخذ عبد السلام رأينا في هذا البرنامج، فوافقناه فيما رأى.
كان المكان الذي ضربت فيه الخيام على بعد ثلاثمائة متر من استراحة الملك، والاستراحة قصر على شكل مبنى مربع، كل ضلع فيه حوالي 200 متر، والبناء من الطين واللبن، وفي كل ركن من أركانه الأربعة برج للمراقبة، ويضم القصر غرفا مبنية من الطين، وكلها على شكل مربع، اعتقدنا في البداية أن هذه قرية الدوادمي، لكن القرية كانت على بعد كيلين أو ثلاثة من هذا الموقع، وهي محاطة بأشجار النخيل، ونحن هنا خارج نطاق القرية.
شاهدنا قصر الملك في جدة، وفي الرياض فيما بعد، وكان كل قصر يقع خارج العمران، وكل القصور- ماعدا قصر جدة- مشيدة بالطين واللبن، مثلها مثل بيوت الناس العاديين،
والنوافذ والمداخل كانت قليلة جداً، ولا بد أن يفهم أن هذا أمر عام، وحول النوافذ خشب أبيض، مما يعطي شكلاً جمالياً، وتناسقا بين النوافذ والجدران المبنية من الطين واللبن. وهذا النوع من الفن المعماري، أو الزخرفة المعمارية كان مقصوراً على الملك والأسرة المالكة والأسر الثرية، وبالقرب من السقف نصب "ميزاب " ينساب منه الماء عندما يهطل المطر. وغربت الشمس، وعم الظلام، لا شيء يظهر إلا نور مصابيح القصر.




وذكر لنا عبد السلام أن للقرية أميراً كان المفروض أن يستقبلنا، إلا أننا وصلنا وقت صلاة المغرب تماماً، وهذا وقت ذهاب الأمير للصلاة في المسجد، وبعد انقضاء الصلاة سوف يأتي للترحيب بنا. وقال أيضاً: "إن في القصر جهازا لاسلكياً صغيراً، لإرسال البرقيات، وطبقا للتقاليد المتبعة يمكنكم أن ترسلوا برقية للملك لاطلاعه وإخباره بوجودكم، ووصولكم بأمان، شاكرين له ذلك، وتخبرونه بوقت وصولكم في يوم الجمعة" وهكذا قررنا إرسال برقية إلى الملك.
دخلنا القصر إلى غرفة جهاز اللاسلكي، كان هناك رجلان، أحدهما هو المسؤول عنه. رحب بنا بحرارة، والآخر يعمل على الآلة التي صنعها "ماركوني "..
أراد الوزير المفوض الياباني يوكوياما أن يرسل برقية إلى القاهرة أيضاً، إلا أن البرقية سوف ترسل أولاً إلى الرياض، ومنها إلى القاهرة. فالجهاز هنا ضعيف، ويستخدمونه عادة للاتصالات المحلية، ويبدو أن الرجل المسؤول عن جهاز اللاسلكي سوري، بينما الآخر الذي يعمل على الآلة سعودي من نجد، كلاهما هادئ ومهذب جداً، قام النجدي بإرسال البرقية إلى الملك، أرسلها بسرعة، لأنها كانت باللغة العربية، أما برقية الوزير يوكوياما فكانت بالإنجليزية، لذا قام الرجل المسؤول عن اللاسلكي بإرسالها.
وبعد أن انتهينا من إرسال البرقيتين قال المسؤول عن السيارات التي تقلنا: إنه يريد أن يدعونا لتناول الشاي، فذهبت مع الوزير.
كانت مساحة الغرفة المعدة لتناول الشاي في القصر في الطابق الثاني حوالي 20 متراً مربعاً، كان الجدار مطليا باللون الأبيض، بينما كان السقف عاليا جداً، وفرشت أرضية الغرفة بفرش بدا أنه مصنوع من الريش!! ووضعت وسائد يتكئ عليها الزائر وهو جالس.
كان في الغرفة ثمانية رجال من العرب، يرتدون المشالح، وجلسنا جلسة عربية على فرش الغرفة، وبجوار الوزير جلس مضيفنا المسؤول عن النقل، وجلس بجواري عبد السلام، وجلس بجوار عبد السلام شيخ يبلغ من العمر حوالي الستين عاما، ربما يكون شيخ هذه القرية، ثم بقية الضيوف، رحب بنا مضيفنا ثم بدءوا في تقديم القهوة، ثم الشاي بالنعناع والقرفة، شربنا في أكواب من الزجاج، ثم قدموا لنا حليب الماعز، وهو الحليب الذي تشتهر به هذه المنطقة، ويتم غلي الحليب، مضافة إليه كمية كبيرة من السكر، ويظل يغلي فترة طويلة.
فرغنا من شرب الحليب الذي كانت تنبعث منه رائحة ما، ربما تكون رائحة الماعز. وذكروا لنا أن شرب الحليب قبل تناول الطعام مفيد للصحة. ثم أعادوا علينا الشيء نفسه مرة بعد مرة: القهوة ثم الشاي ثم الحليب. في تلك الأثناء تحدثنا عن أمور كثيرة مع المسؤول عن النقل، ومع بقية الضيوف، ومن خلال طريقة حديثهم شعرت أنهم كانوا يهتمون تماماً بكل كلمة تصدر عنهم، ربما لأن هذه أول مرة يتحدثون فيها مع أجانب، وربما كان لديهم نوع من الحذر، لكن بعد مدة تغيرت طريقة حديثهم، وصاروا أكثر ألفة، أخذوا يسألوننا أسئلة شخصية كثيرة، وانبرى أحدهم يتحدث عن نفسه وعن تجاربه، تحدثنا معا عن تقاليدنا في اليابان، وعن الدين، وعن الصيد في الصحراء، والبترول في الأحساء والدمام، وعن الملك. كانوا يوجهون لنا أحيانا الأسئلة مباشرة، وأحيانا كانوا يسألوننا عن طريق عبد السلام.
كانوا يسألون بطريقة مهذبة جداً، قال أحدهم: إنه سافر إلى منطقة الأحساء، ويبدو أنه تاجر، ثم أردف قائلاً: إنه رأى عيون الماء المعدنية تنساب في جدول. وكنت أنا والمهندس ميتسوتشي قد خططنا لزيارة الأحساء والبحرين والكويت بعد زيارة الرياض، فبدت قصة الرجل عن المياه المعدنية مشوقة لنا، وكذلك بدا حديثه عن آبار البترول مشوقاً.
ذكروا لنا: أن عدد سكان القرية حوالي 300 نسمة، وفيها 120 بئر ماء. وبعد ساعة انتهى حفل العشاء.

الساعة الثامنة

جاء الأمير سعد الفيصل لتحيتنا، كان مظهره يدل على قوة جسمه وجده، وأنه لا يهاب شيئا، وبدا أمامنا بدوياً أصيلاً. كأنه في الخمسين من عمره، وذكرني مظهره هذا بسفير المملكة العربية السعودية في القاهرة الشيخ فوزان السابق.
حيانا الأمير باحترام، وتحدث بلهجته النجدية، ونقل عبد السلام ما قاله إلى الفصحى.

الساعة التاسعة إلا الربع

غادرنا القصر إلى الخيام، حيث تناولنا طعام العشاء، كان الطعام كالمعتاد. إلا أن الفاكهة الطازجة انتهت، وحلت محلها الفاكهة المعلبة.
ومن الدفينة إلى هذا المكان قطعنا 313 كيلاً، ومن القاعية 106 أكيال. كان الجو مظلما، ولكن كان من الممكن أن نشاهد نور القصر، ولا شيء غير ذلك







  رد مع اقتباس
قديم 05-11-10, 09:28 AM   #3
عارف الشعيل
 
افتراضي


اليوم الرابع
الإتجاه نحو الرياض

الثلاثون من مارس

الساعة السادسة صباحاً

درجة الحرارة تسع درجات مئوية، استيقظنا من النوم، ورحت انظر فيما حولي، فرأيت منطقة نجد، وصحراء نجد، وأخذت أطالع المنطقة الواقعة خارج الدوادمي التي أظن أنها لم تتغير منذ آلاف السنين.

الساعة السابعة والنصف

تناولنا طعام الإفطار، وقدم الأمير سعد الفيصل (سعيد)، مع خادمه إلى الخيمة، ودعانا إلى تناول الشاي، فذهبنا إلى القصر، وما حدث ليلة أمس تكرر اليوم، إلا أن الغرفة كانت مختلفة غير أنها كانت من الداخل شبيهة بتلك التي جلسنا فيها ليلة أمس.
حين دخلنا الغرفة قدم أحد الخدم، يحمل وعاء به بخور (مبخرة) مصنوعا من الخشب، وجلسنا على الأرض متكئين على الوسائد. فكانت رائحة البخور بالنسبة لي عجيبة، ومثل ليلة أمس قدمت لنا القهوة ثم الشاي ثم حليب الماعز ثم القهوة مرة أخرى، وأصبحنا أكثر تآلفا عن ذي قبل، أقصد عما كنا عليه ليلة أمس.
كان موضوع الحديث بعيداً تماماً عن أي موضوع سياسي، كان يدور في معظمه عن التقاليد والثقافة، وحين تحدثنا عن البخور، قلت للأمير: إن اليابانيين مهتمون كثيرا برائحة البخور منذ القدم، وقال الأمير: إن هذه المبخرة مصنوعة في الرياض، وهي قديمة جداً جدا، وذكر أن العرب يحبون البخور منذ الأزمنة القديمة، وقال الأمير أيضاً: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن أحب الأشياء إليه ثلاثة: الطيب، والنساء، والصلاة. وهذه الكلمات تعد سنة عن الرسول الله صلى الله عليه وسلم، واستطرد الأمير قائلاً: "إن البخور المستخدم في مناطق نجد والحجاز يأتي في معظمه من الهند، وأن ثلث دخل هذه القرية ينفق على البخور".
وعرفت فيما بعد أن البيوت الثرية تستخدم بخورا مستوردا غالياً جداً. وعلمت أن الملك يحب البخور كثيراً، وقد اشتهر هذا الأمر عنه، وذكر عبد السلام "إن أعضاء الإرساليات النصرانية يستخدمون البخور أحيانا، حين يقومون بمحاولاتهم في تنصير المسلمين ".
وعرفنا حقاً أن البخور شيء ثمين وغال، وفي مصر- وهي أيضا من بلدان الشرق الأوسط- يستخدمون البخور، حتى النصارى الأرثوذكس والأقباط. والسوريون لديهم أيضا عادات تتعلق بإطلاق البخور، فالمسلمون يعلقون المباخر كل يوم جمعة، ويطلقون البخور بكثرة، بينما النصارى يطلقون البخور يوم الأحد، لا الجمعة.

خف والبئر المرعب
خرجنا بعد حفلة الشاي، وودعنا الأمير أمام القصر، واستأنفنا السير في تمام الساعة الثامنة صباحا، كان الطريق مستويا سهلاً، والحرارة ترتفع تدريجيا، أنفي وشفتاي أصبحت جافة، فوضعت عليها بعض الكريم لترطيبها، ومعالجتها من الجفاف.

الساعة العاشرة إلا الربع صباحاً

بعد أن قطعنا ستين كيلاً من مسيرتنا، وصلنا إلى "خص"، حيث تقع صحراء "النفود" في جهة الشرق منها. وهي رمال ناعمة جداً؛ ولهذا فلا توجد نباتات على الإطلاق، والصحراء قاحلة، وهي تمتد من وادي السرحان حتى جبل شمر، ويسمون هذه الصحراء صحراء "خفة"، وهناك صحراء أخرى شبيهة بها، هي صحراء الربع الخالي.
وصحراء النفود تعني منطقة هضبة نجد. والمكان الذي وصلنا إليه الآن هو جزء من صحراء النفود، والعرب- حتى الذين اعتادوا منهم السفر في الصحراء- يهابون هذا المكان، فعبور صحراء النفود يحتاج إلى راحة كاملة وماء، والناس يميلون إلى تجنب عبور هذه الصحراء، والمضي من طريق آخر، ولكن لم نكن نتخيل كيف تكون صحراء النفود، وقررنا أن نتناول طعام الغداء، طبقاً لنصيحة العرب المرافقين.
لاوجود لأي من البيوت أو الخيام، ولا يوجد أثر لبدوي، لاشيء، كل ما يمكن أن نشاهده بئر صغيرة، وعلى الرغم من أنه لم تكن هناك رياح، فإن الفضاء كان لونه أصفر.
توقفت سيارتنا عند هذه البئر الصغيرة، وبعد فترة قدم إلينا ستة من البدو مع أغنامهم، يقصدون الماء، كانت رائحة أجسامهم ورائحة الغنم نافذة، لم نكن نتحملها، تحرك البدو بهمة ونشاط وبسرعة فائقة، فأخرجوا الماء من البئر، وسقوا الأغنام حتى ارتوت، كل ذلك تم بخفة، وفي حركات سريعة.
ظل هؤلاء البدو يحملقون فينا، ربما كنا بالنسبة لهم شيئا عجيبا، فقد كان غريبا أن يروا أجانب في هذا المكان.
بدأ عبد السلام يشرح لهم، فقال "إن هؤلاء الناس (أي نحن) أصدقاء الإمام ". والبدو يسمون الملك إماما، وأعطاهم عبد السلام بعض النقود الفضية، وبدأوا ينشغلون بأنفسهم، ثم مضوا إلى حال سبيلهم.
كان لدينا متسع من الوقت فضربت الخيام و بدئ في إعداد الطعام، وقام رئيس الطهاة بمتابعة الرعاة البدو، وراح يناقشهم في شراء شاة، ونجح في النهاية.
وبقي لدينا وقت كاف حتى إعداد الطعام، فأخذنا بعض الصور، وقام المهندس ميتسوتشي بدراسة جيولوجية المنطقة، وأخذنا نتطلع إلى البدو، ونشاهد كيف يسقون أغنامهم، كانوا يجمعون الأغنام بإصدار أصوات الباء والراء. وأعتقد أن هذا في الأصل يعني انظر أو انتبه!!
في مصر والحجاز وسورية وفلسطين، انظر وانتبه تعني "شوف "، وهم لا يستخدمون فعل الفصحى (رأى)، وأظن أن ظهور حرف الباء مع الراء أمر غير عادي. كانت ملابس البدو مثل تلك التي شاهدناها على البدو من قبل، لكن السروال كان قصيراً. كانت هناك امرأة، ربما تكون زوجة شيخ البدو، ومعها طفل يبلغ من العمر ثلاث سنوات تقريبا، كانت المرأة مغطاة تماما بملابس سوداء، ورأسها لم يكن يرى منه غير عينيها، ومن يدها أو من كعبها كان يمكن رؤية بشرتها السوداء، كانت أكثر سواداً من أي بشرة شاهدناها من قبل، والطفل كان نحيفا جداً، ربما كان في حاجة إلى غذاء.
بدأ الطفل الصغير يتجه ناحية قطيع الغنم، وراح يلعب مع بعض الغنم، ويركب على ظهرها، كما لو كان الأمر طبعياً جداً، فشعرت بأنها الحياة الطبيعية في الصحراء. كانت البئر صغيرة جداً، قطرها حوالي متر واحد فقط، لكن هذه البئر الصغيرة- بالنسبة للبدو- ذات قيمة عظيمة، فالبئر هي رفيقة حياتهم، وعلى الرغم من أن ماء البئر يحتوي على نسبة عالية من الملح تجعله غير صالح تماما للشرب، فإن الأمر لم يكن يهمهم في شيء، فهم يشربون هذا الماء، وكأنهم يشربون الماء العادي الصالح للشرب.
تحدثت مع زعيم البدو أو شيخ البدو، وسألته عن عدد القطيع الذي يملكه، لكنه لا يستطيع أن يعد أكثر من الرقم عشرة، لهذا أشار إلي بأصابعه العشرة، ثم عاد وكرر ذلك تسع مرات، وبهذه الطريقة عرفت أن لديه 90 رأساً من الغنم، وسألته إن كان يعرف الرياض فقال:
"نعم، العام الماضي ذهبت لأبيع بعض رؤوس القطيع " فضحكت وقلت له على سبيل المزاح: أنا ذاهب إلى الرياض الآن، فهل يمكن أن آخذ ابنك معنا؟ فرد بالنفي "لا.. لا.. لا يمكن أن يأخذه أحد .. لابد أن يبقى معي دائما".
هكذا يقضي هؤلاء البدو حياتهم فترات طويلة على الوتيرة نفسها، لا تغيير على الإطلاق..
ولا تغيير مستقبلاً، في مثل هذه الظروف الصعبة جداً.. لكن الظروف من حولهم تغيرت، ولا تزال تتغير، ومن أوضح الأمثلة على هذا أن الملك يذهب كل عام إلى مكة للحج مع خمسمائة شاحنة (عربة نقل) ملأى بالحجاج، وهذا يؤدي بالتدريج إلى التمدن والتحضر..
وأحيانا ودون أن ينتبه هؤلاء البدو يتأقلمون مع التغييرات الجديدة، لكنهم لا يشعرون بهذا بطبيعة الحال.
ولهجتهم العربية يصعب فهمها جداً، وهي قريبة من العربية الكلاسيكية، إلا أن نطقها مختلف كثيرا، وهذا ما شعرت به حين كنت أتحدث معهم.
كانت درجة الحرارة درجة مئوية واحدة، والارتفاع عن سطح البحر كان 720 مترا. أكلنا كثيرا، فالسفر وسط الصحراء جعلنا نشعر بالجوع أكثر، لا أدري لماذا؟ جلسنا على الأرض، وعلى الطريقة العربية أكلنا بأيدينا… وهذا شيء مناسب تماما بالنسبة للطعام العربي، لا يوجد فاكهة طازجة، ولا خضروات طازجة، بل يوجد لحم غنم فقط.
وحين شرعنا في أخذ قسط من الراحة والنوم القليل، سمعنا صوت سيارة مسرعة، قادمة إلينا، وتلتها سيارة أخرى، ثم توقفت السيارتان: سيارة بيوك وسيارة فورد، توجه إليهما عبد السلام ورئيس الحرس وراحا يتحدثان مع أحد الرجال في السيارتين، ثم عاد إلينا عبد السلام قائلاً:
إن مستشار الملك خالد أبا الوليد وسكرتيره ذاهبان إلى جدة، ولما عرفا أننا قادمون إلى الرياض، أرادوا المجيء لتحيتنا. كان مستشار الملك الذي يدعى خالد أبا الوليد في حوالي الخمسين من عمره، أبيض الشعر، أما سكرتيره فكان طويل القامة نحيفاً.
رحبنا بهما في خيمتنا، وقدمنا لهما القهوة والشاي، كان كلاهما يجيد الفرنسية فتكلم معهما الوزير الياباني مباشرة دون مترجم، وكانا ذاهبين إلى جدة في طريقهما لحضور مؤتمر دولي يعقد في باريس في شهر يونيه، ولأول مرة يشاهدان يابانياً، ولذا قال مستشار الملك إنه يحمد الله ويشكره الذي مكنه من رؤية ياباني على أرض الصحراء هنا في المملكة.
كانا يرتديان جلاليب بيضاء من الحرير وعقالاً وغترة وصندلاً، وبدت ملابسهما نظيفة أنيقة مرتبة، كان لخالد أبي الوليد لحية بيضاء طويلة، وسكرتيره كانت له لحية صغيرة جداً عند ذقنه وكان له شارب. تحدثنا مدة ثلاثين دقيقة، وكانا في عجلة من أمرهما، فتركانا بسرعة، ومضيا إلى حال سبيلهما.
وفي الرياض سمعت من يوسف ياسين، سكرتير الملك، أنه حين يسافر كان يسافر بسيارة واحدة وخادمين، وكان يقطع المسافة من الرياض إلى مكة في ثلاثة أيام ونصف، فتعجبت كثيرا! وسوف أشير إلى هذا فيما بعد.
وخالد أبو الوليد- الذي سبق ذكره- ولد في مراكش. وهو واحد من بين أربعة مستشارين للملك، ويعتمد الملك عليه كثيرا، ويثق به، وكان لدي بعض الكتب العربية التي طبعت حديثا، في كل منها كان اسمه يذكر دائما، فهو رجل مهم جداً في السعودية الآن، ولا أزال أتعجب، لماذا
طلب منا حين التقينا به بألا نخبر أحدا بأننا التقينا به هنا في الصحراء، وبأنه ذكر لنا أنه ذاهب لحضور المؤتمر الدولي في باريس.
لا أزال أتعجب من هذا الأمر. لكن بعد فترة طويلة استطعت أن أعرف من بعض الباحثين البريطانيين أن زيارته لباريس لم يكن الهدف منها حضور أي مؤتمر فيها أصلاً بل كان مسافرا إلى "برلين " في مهمة خاصة، لست متأكدا لكنني عرفت أنه كان من معارضي بريطانيا.

عبور صحراء النفود
الساعة الثانية

وبعد أن غادرنا خالد أبو الوليد بدأنا نشد الرحال، ونغادر المكان متجهين إلى أصعب مراحل رحلتنا هذه. كان الطريق سهلاً ولمسافة ثلاثة أكيال، وكان على السائق أن يقود السيارة بعناية واهتمام بسرعة 70 كيلاً في الساعة.
وبعد قليل لم نعد نرى من حولنا شيئا سوى الصحراء تحيط بنا من كل جانب، والشمس في كبد السماء من فوقنا، وبعد مسافة وجيزة أخذت عجلات السيارة تغرز في الرمال، ولهذا كان علينا أن نرفع السيارة، وأصيب السائق بحالة من القلق وشد الأعصاب، وتكرر الأمر مرة بعد أخرى، وراحت السيارة تتمايل يمينا ويسارا، مما جعل بعضنا يرتمي على بعض، والسيارة تمضي على هذا المنوال، وأمامنا وبين الحين والحين كان يعترض طريق السيارة مرتفع يصل أحيانا إلى خمسين متراً، فكان يمثل صعوبة للسيارة وهي ترتفع إلى أعلى، وكأنها ستتحطم، بينما كانت أجسادنا يتراكم بعضها فوق بعض، وتهتز أحيانا كالأرجوحة، وتكرر هذا الأمر كثيراً، مما جعلنا نمسك بالمقابض الموجودة داخل السيارة طوال الوقت، حتى نقلل من شدة وقوع بعضنا على بعض، ورغم هذا كانت رؤوسنا تتخبط أحيانا في سقف السيارة.
غير أن الصعوبة البالغة كان يعانيها السائق الذي كان عليه أن ينتبه لكل شيء، ويغير مقبض السرعة مرة بعد أخرى، ويمسك بعجلة القيادة بقوة شديدة. كان سائقا متمرسا ذا خبرة، مما جعلنا نثق به كثيرا، ونعتمد عليه تماما، ورغم أننا غطينا رؤوسنا ووجوهنا بالغتر فإن أنوفنا وآذاننا ملئت بالرمال.
وفي النهاية توقفت السيارة، وكان علينا جميعا أن نقوم بسحبها من الرمال بعد أن انغرست فيها العجلات، وأوشك ماء "المبرد" على الانتهاء. وكان ينبغي لنا أن نسرع، فأصابني القلق وكادت أعصابنا أن تفلت دون استثناء، ومما خفف علينا ما نحن فيه أننا على بعد عشرين دقيقة من المكان المحدد للراحة، ورغم هذا سيطر علينا الخوف والقلق.
سحبنا السيارة وبدأنا السير ثانية، ونحن نتمنى ألا يحدث ما حدث سابقا، وبعد عشرين دقيقة صارت الرمال أكثر تماسكا وصلابة عن ذي قبل، وتغيرت الظروف. فتوارى القلق، وشعرنا بالراحة، فقد أصبح الطريق سهلاً وصلبا، وكان "المبرد" (الراديتر) على وشك أن تنبعث منه رائحة الدخان، فوضعنا فيه ماء الشرب في حين كانت العجلات على وشك الاحتراق بسبب الاحتكاك الشديد بالطريق صعودا وهبوطا، وبعد دقائق وصلت سياراتنا التابعة لنا من ورائنا، والتقينا معاً وراحوا يرددون:
((سلامتك..... سلامتك... سلامتك، الحمد لله... الحمد لله))
وبدا الجميع سعداء جداً بعد اجتياز هذه المرحلة الصعبة من الرحلة، قطعنا حوالي أربعين كيلاً، فيما يقرب من ساعة، بسرعة ثمانين كيلاً في الساعة.
أخذنا قسطاً من الراحة، تناولنا خلالها الشاي وبعض "البسكويت " وكان كل شيء لذيذا جداً بعد هذه المرحلة من الرحلة، وفي الساعة الرابعة حين بردت السيارة بدأنا التحرك تجاه واحة "مراة".

واحة مراة الخضراء
الساعة الرابعة عصرا

كانت السيارة تنطلق على طريق تحف به أشجار التين القصيرة، كان عدد هذه الأشجار كبيرا جداً، وشاهدنا قطيعاً من البقر يتكون من حوالي عشرين بقرة، كان القطيع يمشي في الاتجاه نفسه الذي نمضي فيه.
وهذا يعني أننا كنا قريبين من الواحة، ومن مسافة بعيدة شاهدنا قرية (مراة) تحيط بها أشجار النخيل. حتى الآن لا أزال أتذكر ذلك المنظر الرائع، منظر الواحة، رمال صفراء، وشمس تسطع أشعتها بقوة، وأشجار التين القصيرة، ثم الآلاف من أشجار النخيل. ياله من منظر ويالها من روعة!! شعرت كأنني وحدي وسط هذه الصحراء، وأن هذا المنظر الرائع كان يستقبلني، يرحب بي يمد إلي ذراعيه، يحتضنني، أنا القادم من أقصى الشرق، وبالنسبة لي كانت أشجار النخيل هذه مثل "قطرة العين " التي تبعث إلى النفس الراحة والهدوء. لم أر مثل هذه الخضرة منذ غادرت جدة، ومنذ أن دخلت منطقة نجد.
كتبت مذكراتي وأرتبها الآن، وأعيد ترتيب عباراتي، ووجدتني كنت قد كتبت: "منذ غادرت الحجاز أرى واحة لأول مرة.. ليس عندي كلمات تصلح لوصف هذا المشهد".
ووضعت خطاً تحت هذه العبارة، في الحقيقة كان أعظم شعور بالسعادة قد غمرني وأنا أطالع هذه الطبيعة من أمامي، تلك التي زخرفتها ونقشتها أشجار النخيل، خضرة عمت ناظري وملأت عيني، وكان المهندس ميستوتشي يشعر بما أشعر به أيضاً.
توقفنا على بعد 400 متر من سور القرية، كان هناك الكثير من العرب الذين يزودون عرباتهم بالوقود، ويحملون ما يحتاجون إليه من ماء، وشاهدنا ثلاث نساء بدويات. وقد ارتدين ملابس تغطيهن من قمة رؤوسهن إلى أخمص أقدامهن، كن يحملن في أيديهن آنية من النحاس بارتفاع 30 سنتيمترا، ويصل قطرها حوالي 30 سنتيمترا أيضا، شاهدنا في سفرنا هذا قليلاً جداً من النساء، فتكونت لدينا رغبة حب استطلاع لمشاهدة النساء.
وهناك وجدت هضبة عالية، ربما كان ارتفاعها ستين مترا، ومن فوقها يمكن مشاهدة القرية كاملة، ورأينا مجموعات من قطعان البقر يرافقها أطفال من البدو، وبينما كان الوقت يقترب من الغروب، كنا على ارتفاع 660 مترا من سطح البحر، وطبقاً لما ذكره عبد السلام فإن عدد سكان القرية أربعة آلاف نسمة، وفي هذا المكان ولد "امرؤ القيس " شاعر الجاهلية، في عصر ما قبل الإسلام. لم أكن أعرف هذه الحقيقة.

أمرؤ القيس

ولد امرؤ القيس لأحد شيوخ القبائل، ولكنه عشق الخمر والنساء ففسد، ولهذا غضب عليه أبوه حجر بن عمرو، وطرده من القبيلة، وهكذا بدأ امرؤ القيس رحيلاً مستمرا هنا وهناك، وحينما كان في حضرموت سمع بأن أباه قتل، قتلته قبيلة أسد، وفور سماعه الخبر أراد العودة إلى قبيلته بعبور صحراء الربع الخالي، وفي الطريق تعرض له قطاع الطرق، وفقد حارسه الخاص، وطلب امرؤ القيس العون من "كسرى قباذ" وطاف بالجزيرة العربية، وانطلق شمالاً إلى سورية ومنها إلى روما، وطلب المساعدة من ملك روما يوستيانوس، ويقال: إنه عين أميرا لمنطقة فلسطين، لكن شخصيته كشاعر لم تؤهله للنجاح في مهمته.
ومن هنا كان عليه أن يعود إلى موطنه نجد، ولكنه في طريق عودته أصابه مرض جلدي فمات في أنقرة.
وقد ولد سنة 130 قبل الإسلام ومات سنة 80 قبل الإسلام، هكذا كتب المؤرخون العرب، وقد درست وتعلمت الكثير عن شعر امرئ القيس على يد الدكتور طه حسين، ولا أزال أذكر هذه الأشعار الرائعة له.




قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزلبسقط اللوى بين الدخول فحومل








فهو هنا يتذكر ابنة عمه عنيزة، وقد تأثرت كثيرا بتعبيراته الرائعة، وهو يتحدث عن محبوبته. وتعبيراته في وصف الطبيعة فاقت كل خيال، وكذلك وصفه الرائع لفرسه، وقد جذبتني أيضا طريقة حياة نبلاء العرب وشيوخ القبائل، وقد عبر امرؤ القيس عن كل هذا في أشعاره بصدق. لا أزال أتذكر حتى الآن أشعاره، وهذه القرية وتلك الطبيعة الخلابة أعادت لذاكرتي، بل جددت ذكرياتي عما عبر عنه امرؤ القيس في أشعاره، ودغدغت أحاسيسي ومشاعري.
وقد اشتهر اسم امرئ القيس بين المؤرخين الرومان أيضا، وشعره يمكن أن نجده في جميع كتب الأدب إذ لا يخلو كتاب من ذكر اسمه، ولقد عرفت من قبل أين ولد، كنت أدرك أنه ولد في وسط نجد، ولد في واد مملوء بأشجار النخيل، غير أنني لم أكن أعرف هذه الواحة في صحراء النفود. وحين كان صغيرا، كان والده له سلطة كبيرة في هذه المنطقة. لاشك في هذا، مكان ساحر، ومنظر رائع، الخضرة الجميلة، خضرة المكان كله، وخضرة أشجار النخيل، والهضبة الصخرية هناك تبدو كأنها مكان سري، والنساء اللاتي يتمايلن ويتبخترن في مشيهن. كل هذا جذب امرأ القيس، وحرك مشاعره، فاندفع يعبر عن أحاسيسه بقول الشعر.
ويذكر في الكتب أن امرأ القيس كان آخر ملك في هذه المنطقة (بعد وفاة والده كان عليه أن يعود ليتولى الحكم مكان أبيه). ياله من مكان!! هذا المكان مسقط رأس امرئ القيس، مكان رائع.

صلاة المغرب على الهضبة الصخرية
الرابعة وعشر دقائق

تحركنا إلى جهة الشرق، وبدا كأننا نرى القرية التي بنيت من الطين، وتحول سطح الجبل إلى نوع آخر من الصخور، تختلف عن الصخور التي شاهدناها من قبل. ورحنا نتجه شرقا فشرقا، وفوق قمة الجبل كان لون الصخور أبيض كما لو كانت الثلوج تغطيه، لكنها الصخور البيضاء. كانت الشمس تميل إلى الغروب، وشاهدنا كتل الصخور التي غسلتها المياه، كما شاهدنا أيضا أشجار "الطلح " و"السلم "، وبينما كنا ننحدر إلى أسفل الجبل، طلب منا الوزير الياباني أن نرى المنظر الخلفي من زجاج السيارة. كانت الشمس تغرب وتختفي في حضن الجبال، وتحول الأفق بأكمله إلى حمرة قانية، قانية جداً كدم غزال أصيل، لم يحدث أن رأينا مثل هذا المنظر من قبل. شعرنا بجمال الشمس والاحترام الشديد لهذه الطبيعة، ثم اختفت الشمس تماما وحل الظلام.
ارتفع الطريق من أمامنا مما أثر في سير السيارة، وعلى يميننا كان الجبل، وعلى يسارنا كنا نشاهد من بعيد قطيعا من الخراف، وبعد ذلك وجدنا أنفسنا نمضي في طريق ضيق جداً، يحتاج من السائق إلى انتباه شديد، فمشى بسرعة 10 أكيال في الساعة. وبدأ الطريق يهبط بنا وينحدر، وجعلني هذا أتذكر حين كنت أقود السيارة في القاهرة عند الأهرامات، في الليالي المقمرة في الطريق المنحدر هناك، تذكرت هذا وأنا هنا في وسط نجد.
ظهر أمامنا وادي حنيفة، وأوقف السائق السيارة فجأة، ولاحظنا على وجهه علامات الصرامة والجد، قال: انتظروا.. وابتعد عنا.. ثم قام بقضاء حاجته بعد أن جلس على الأرض.
وقمنا نحن أيضا بالشيء نفسه، ولكننا لم نجلس على الأرض، بل قمنا بقضاء الحاجة واقفين. وبينما كنا نقضي حاجتنا كان السائق ينظر إلينا بتعجب شديد، لأن "قضاء الحاجة وقوفا" كان عجيبا جداً بالنسبة له، وغريبة عليه أيضا. ثم قام السائق فتوضأ (تيمم بالتراب)، وبدأ الصلاة، وهذه أول مرة رأيناه يصلي منذ أن خرجنا من جدة !! قال لنا: إن الجو المحيط بنا هنا يجعله يصلي الآن، ورأينا الهلال، كان هلال اليوم الثامن أو التاسع. كنا كما لو نحلم ونحن نشاهد هذا المنظر الطبيعي الرائع، الذي لا يمكن وصفه، وكان النسيم عليلاً والهدوء يخيم على المكان.
والسائق (شاكر) مولود في مكة، ويجري الدم البدوي في عروقه، وهذا الجو بالنسبة له يعني الكثير، فقد كان سعيدا فرحا هاشا باشاً، وهو يمر بهذه المنطقة، والهلال فوق الجبال جعله ينتبه إلى أداء الصلاة، وكان لدي شعور وإحساس بالرغبة في أداء الصلاة مثل شاكر، فقد كنت أدرس في جامعة الأزهر بالقاهرة، ولكن أمام الوزير، وأمام المهندس ميتسوتشي شعرت بالخجل، فتوقفت، لكنني بدأت أغني بصوت عال مع المهندس ميتسوتشي أغنية هي الآن مشهورة جداً في اليابان، بعنوان "الغروب في الصحراء".
كان يمكننا أن نرى الجبل، الذي بدت صخوره من الحجر الجيري، وهيئته مثل جبل فوجي، لهذا أطلقنا على هذا الجبل "جبل فوجي العربي"؛ ربما كان ارتفاعه 300 متر فقط، لكن شكله كان غريبا جداً، حين كنا على الحدود بين الحجاز ونجد أمكننا رؤية جبال الجرانيت، لكن - الآن وبالقرب من الرياض وعلى بعد حوالي مائة كيل في الوادي- يمكننا أن نرى هضابا تتكون من الأحجار الجيرية، ياللفرق بين الجرانيت والحجر الجيري!!
وذات مرة منذ مائة وخمسين سنة استولى أفراد الأسرة المالكة المصرية-- طوسون بيه وإبراهيم باشا- على هذه المنطقة، ولكن بعد عدة سنوات كان عليهم أن يعودوا أدراجهم ثانية.
أخذنا نتحرك على طريق هو عبارة عن رمال بيضاء، كانت أنوار السيارة الأمامية مضاءة، وكانت تسير على هذا الطريق السهل المنبسط، بسرعة 90 كيلاً في الساعة.
وواجهنا سيارة قادمة أمامنا، كانت هذه أول مرة نشاهد سيارة في مواجهتنا منذ غادرنا الحجاز، ولهذا شعرنا أننا وصلنا إلى نجد، غير أننا سرنا أكثر من ساعة على هذه الوتيرة، حتى وصلنا إلى القرية التي بنيت من الطين، فهدأ السائق من سرعة السيارة.

نقص الوقود عند العرب!!!

كان يمكن أن نشاهد أمامنا أضواء صغيرة، ربما يوجد هناك أناس. فأوقفنا السيارة ونزلنا منها، وذهب السائق تجاههم، كانت هناك عربة نقل (شاحنة) مع رجلين، وبعد أن عاد سألناه: ما الخبر؟ قال: هؤلاء يعملون في الحكومة، وهم ذاهبون من الرياض إلى مكة، إلا أن نقص وقود سياراتهم جعلهم ينتظرون سيارة تمدهم إن أمكن بالوقود.
ورحت أفكر.. مائة كيل هي المسافة من هنا إلى الرياض، ولم يعد مع هؤلاء وقود للسيارة. ماذا بعد ذلك؟ سوف يعبرون صحراء النفود، وسوف يمضون في مناطق أخرى صعبة، كيف سيتصرفون!؟
تعجبتا.. ألم يفكروا في هذا الأمر؟ ربما يظنون أن أحداً سيقدم لهم المساعدة كلما احتاجوا إلى ذلك، وفي كل مرج ينفد منهم الوقود، لابد أنهم مهملون لا يعملون حسابا لمثل هذا الطريق .. ألم يفكروا في كل هذا.!؟
كان هذا رأي السائق أيضا الذي أخبرهم أنه لا يمكن أن يعطيهم وقودا لسيارتهم، وذكر لهم أن من ورائه سيارة قادمة ربما تزودهم بالوقود، وأن عليهما الانتظار حتى تأتي هذه السيارة.
ولكن- فيما بعد وفي الرياض- أخبرنا بأن عبد السلام أعطاهم صفيحة من الوقود حتى يتمكنوا من متابعة رحلتهم.

الظلمة ومسيلمة

ومضينا في طريقنا.. أصبح الهواء محملاً بالرطوبة إلى حد ما، وأخذ الطريق يضيق، وامتلأ بالمطبات، فقلت سرعة السيارة عن ذي قبل، ثم تشعب الطريق إلى عدة طرق، اضطرب السائق في البداية فلم يكن يدري أي طريق يسلك، وحاول أن يسلك أحدها، فكان مصادفة هو الطريق الصحيح، و على جانبي هذا الطريق وبمحاذاته رأينا نبات القمح الأخضر، كان ارتفاعه حوالي 30 سنتيمتراً، أخذت عوداً من أعواده وعضضته فشممت فيه رائحة القمح الحقيقي، وذقت فيه طعم القمح الحقيقي، وبعد ذلك قال لنا السائق شيئا عجيبا، قال: ربما ضللنا الطريق، هذا الطريق يؤدي إلى ضرما، وخشينا أن نكون قد ضللنا الطريق فرحنا نطالع الخرائط، ثم اكتشفت أنني أخطأت، وأسأت فهم ما قاله. فقد قال: (ضرما) وظننته قال:
إنه فقد الطريق نتيجة (الظلمة) أي الظلام.
ولم يكن في مقدورنا أن نفعل شيئا ونحن نظن أننا فقدنا الطريق، فجلسنا على جانب الطريق ننتظر، ونحاول اكتشاف الطريق الصحيح، حتى جاءت إلينا سيارة عرفنا أنها سيارة عبد السلام الذي رجع يبحث عنا، وقال: هنا "العيينة" وهي بلدة مشهورة تعرف بأنها بلدة مسيلمة الكذاب، وسمعنا عن قصة مسيلمة، وأنا أعرفها لأنني درست التاريخ أيضاً في جامعة القاهرة.
قرأت عن مسيلمة الكذاب الذي ادعى النبوة، وأقلق الناس في نجد واليمامة، والعيينة مشهورة أيضا بمحمد بن عبد الوهاب، إمام الدعوة الوهابية، وسكانها الآن حوالي ألف نسمة، وكانت هذه البلدة منذ مائة سنة مركزا سياسياً وثقافياً لنجد، وقد أعيد بناؤها مرة بعد مرة. لأن الفيضانات كانت تغرق البيوت، كلما جاء موسمها، ومع بداية القرن التاسع عشر استولى الجيش المصري على هذه المنطقة، لكني أشعر الآن كما لو أن هذا الشي لم يحدث، فهذه قرية لا تزال بعيدة عن كل المؤثرات، وهي تبدو فقيرة جداً، وكأن أحداً لم يمر بها.
رجع السائق وأخبرنا بأننا نمضي في الطريق الصحيح، فتابعنا رحلتنا ثانية، وشاهدنا مجرى مائياً صغيرا، لكن هذه المياه كانت غير عادية، لم أر مثلها منذ تركنا "الجعرانة" وشاهدنا بيوتا مبنية من الطين، وساقية تسحب الماء من البئر، كان الهواء مشبعا بالرطوبة إلى حد ما، وباردا مما يشعرنا بأننا في جو الحضر.

قرية الجبيلة



بينما النوم يداعب جفوني بسبب الهواء العليل، إذا بالسائق يصيح فجأة: الجبيلة الجبيلة!! وسارت السيارة بعد ذلك ببطء، فرأينا على اليسار حائط قلعة شيد من الطين، وعلى اليمين هضبة صغيرة نبتت فوقها أشجار الطلح، وتناهى إلى سمع صوت غريب، صوت يعلو وينخفض، صوت حاد وهادئ في وقت واحد، ظننت أنه صوت قادم من مذياع، ربما من إذاعة مصر أو فلسطين، وتأهبت لسماع أغنية ما، لكنني لم أسمع شيئا سوى ذلك الصوت العجيب، فسألت السائق: ما هذا؟ هل هذا صوت مذياع؟ فضحك وضحك. وأعدت عليه السؤال ثانية، ما هذا الصوت؟ فضحك ثانية، وقال: هذه "سانية". واكتشفت أن هذا صوت السانية التي تمتد حبالها لإخراج الماء من البئر، كان هذا الصوت الموسيقي شبيها بالصوت الذي يصدر عن " آلة الكمان " تماما.. مثل هذا الصوت الموسيقي كان يتناهى إلى أسماعنا في الجبيلة، لكننا لم نر مصدره من حولنا، لم نكن نرى أي نور أو ضوء أو نار. نزلنا من السيارة، ورحنا نستنشق الهواء الذي كان ممزوجا برائحة التراب، وكانت الساعة آنذاك السابعة والنصف ليلاً حين كنا نشاهد أشجار الطلح كان ينتابني شعور بالخوف أكثر من الشعور بجمال هذه الأشجار، لأنه لم يكن هناك أي شيء آخر، وحينما كان مرافقونا العرب يضربون الخيام، ويعدون الطعام كنا نستمع إلى "مذياع " السيارة. وبينما كانت أعيننا تتجه إلى حائط القلعة، شاهدنا سلالم يصعد عليها ثلاثة رجال، ربما كانوا عائدين إلى بيوتهم، كان الجميع هنا مشغولاً بشأنه، والطباخ راح يذبح شاة اشتراها من "خف "، ذبحها بسكين كبيرة، ثم علقها على شجرة، وأخذ يقطعها قطعا صغيرة، استغرق ذلك منه أكثر من ساعة، وكنا في غاية الجوع.
كنت والسائق وعبد السلام بلا عمل ولا شغل، فأمضينا الوقت نسمع "المذياع " ربما كانت إذاعة القدس، وكنت قد تعودت على سماع "المذياع " في مصر، وكنت أسمع بشوق أغاني محمد عبد الوهاب، الذي كان يغني الآن أغنية "الوردة البيضاء". هذه الأغنية مناسبة تماما لهذا الجو الذي نعيش فيه، ولهذا المنظر من حولنا. كانت الجبيلة- مثلها مثل الدرعية والعيينة والرياض، بلدة نشطة، ولكن لم أفكر أبدا في أنني أستطيع أن أسمع أغنية لعبد الوهاب في مثل هذا المكان، كان هذا البث الإذاعي من القدس، وبعد الأغنية جاءت الأخبار من وكالة رويتر باللغة العربية، وكانت عن الموقف السياسي في مصر، والموقف السياسي في أوربا. ذات مرة كنت أستمع إلى إذاعة اليابان وأنا في القاهرة، ولم أكن ساعتئذ أشعر بأن في هذا الأمر غرابة، ولكنني الآن حين أستمع إلى إذاعة القدس ينتابني شعور غريب، ويمكنني الآن أن أفهم ما حدث منذ عشر سنوات من العلماء في مكة، العلماء الذين استمعوا إلى إذاعة مصر لأول مرة، فقاموا بتحطيم أجهزة الراديو، لأنهم ظنوا بأن ما يصدر عنه هو صوت الشيطان. الآن أفهم شعورهم جيدا؟ لأنني شعرت هنا بشعور غريب ينتابني، كانت خيمتنا جاهزة، فدلفت إليها ورحت أكتب مذكراتي، في حين كان المهندس غارقا في فحص الأحجار التي جمعها اليوم، وكان الوزير يتجول حول الخيمة. كنا قلقين وخائفين من أن يلدغنا العقرب. ولهذا وضعنا بودرة البراغيث والقمل في كل مكان حتى داخل أحذيتنا حتى نبعد العقرب عنا، وفجأة قدم الوزير، وقال: انظروا..
انظروا إلى هذا الشيء العجيب، شيء مثل الحجر يتحرك، وحين شاهدناه كان طوله خمسة سنتيميترات، مخلوق أسود مدور يتحرك على الأرض واكتشفنا أن ما نراه نملة كبيرة، تحمل قطعة من روث الغنم. اعتقدنا نحن أنه حجر يتحرك على الأرض !!
وتذكرت ما قرأت عن قصة النبي محمد صلى الله عليه وسلم والحجر. لكن ما أمامي كان مجرد حشرة!! تناولنا طعام العشاء المكون من لحم الغنم المقطع قطعا صغيرة، ووجدنا صعوبة في مضغه. وبعد العشاء أوينا إلى فراشنا للنوم، ونحن على أمل الاتجاه غدا صباحا إلى مدينة الرياض، وكانت درجة الحرارة عشر درجات مئوية، وكنا على ارتفاع 645 مترا فوق سطح البحر. وحين نزلنا في هذا المكان، نكون قد اجتزنا ما يقرب من مائتين وخمسين كيلاً.


للموضوع بقيه











  رد مع اقتباس
قديم 05-11-10, 12:56 PM   #4
محمد بن سيف
 
افتراضي

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
عافاك الله ياعارف وننتظر البقيه
لا هنت








  رد مع اقتباس
إضافة رد
مواقع النشر (المفضلة)


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 09:40 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
 
هلا ديزاين